فك طلاسم الإسلاميين


الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (1)

يحيى رفاعي سرور غفر الله لنا وله ولوالده الشيخ رفاعى سرور رحمه الله رحمة واسعة

الأحد 30 أكتوبر 2011

التحليل النفسي للحركة الإسلامية ..  لم لا  ؟


مسلك التفسير النفسي لمواقف الإسلاميين وتصرفاتهم لم يمارس من قبل إلا في بقصد الإساءة إلى الظاهرة الإسلامية والتشكيك في شرعية وجودها والطعن في نبل مقاصدها. ولذلك فمن  الصعب أن يسلك أحد الأوفياء للحركة الإسلامية نفس هذا المسلك دون أن يعاني من وطأة الموقف وغرابته .

ومن المؤكد أن هذه المعاناة الشخصية هي نذير ممانعة عامة لدى الإسلاميين لقبول نتائج ذلك البحث لأن هذا المعاناة وتلك الممانعة يصدران عن نزوع طبيعي إلى رؤية الذات في شكلها المثالي لا كما هي. لكن إن كنت أنا قد استطعت الظهور على تلك المعاناة بدافع التجرد للحقيقة وبإدراك أن مبدأ التفتيش عن خبايا النفوس ودخائلها هو مبدأ بريء تماما من تطبيقاته المغرضة والسخيفة فهذا يدفعني إلى الأمل في أن تحظى تلك الرسالة ببعض الاهتمام فلست أكثر الإسلاميين تجردا للحقيقة بلا شك .

وربما تأخذ هذه الممانعة شكلا إسلاميا مزيفا هي الأخرى فتعتمد على التشكيك في أصل منهج التفسير النفسي للسلوك وما يتضمنه من تنقيب فيما وراء الوعي فتطعن فيه باعتباره منهجا غربيا فرويديا سيئ السمعة بشطحاته الجنسية والإلحادية المعروفة لكن إن كنت قد استطعت الوقوف على مدى انتشار فكرة "اللاوعي" في التراث الإسلامي عموما وعند متصوفة أهل السنة خصوصا وما اشتهر قديما من أن "الإنسان محجوب عن ذاته" وأن "من ظن في نفسه الإخلاص فإخلاصه يحتاج إلى إخلاص" وأن "الشعور بالإرادة ليس شرطا لتحققها" (ابن القيم / شفاء العليل) وأن معرفة الإنسان لنفسه غاية متعذرة للـ"مُريد" بحيث يحتاج لـ"شيخ" فطن بدروب النفس وبراعتها في خداع صاحبها  .. إن كنت قد استطعت الوقوف على أن فكرة اللاوعي ليست شذوذا أو نشازا عن النظرة الإسلامية للنفس البشرية، وأن الشطحات الجنسية الإلحادية ليست من لوازم تلك الفكرة وإنما هي مقحمة عليها من التحليل النفسي اليهودي، فإن ذلك يدفعني إلى الأمل في أن تندحر تلك الممانعة الماكرة، وتحظى نتائج بحثنا في النهاية ببعض القبول، فلست أكثر الإسلاميين دراية بالتراث الإسلامي بلا شك.
ضرورة التحليل النفسي للحركة الإسلامية :


وقد تأخذ هذه الممانعة شكلا اقتصاديا أقل حدة، فيتسائل بعضهم عن الضرورة التي تلجئنا إلى أن نسلك دروب المتاهات الخفية لدوافع التيار الإسلامي، ويؤكد على ما قد استقر لدينا من أن صريح النقل وسديد العقل كلاهما يحقق الكفاية لتقييم السلوك؟ وأن معيار الصواب والخطأ كفيل بضبطه، فإن كان السلوك صوابا أثنينا عليه وشجعناه، وإن كان خطأ حذرنا منه وشجبناه؟ ويرتاب: ما الذي يدعونا للاهتمام بـ "الدوافع النفسية" كموضوع للنقد بدلا مما اعتدنا عليه من فحص "المواقف والخيارات الفقهية ووجهات النظر"، فنعود بالسلوك إلى "دافع خفي" بدلا من أن نقيِّمه بـ "حكم شرعي صريح"؟ لماذا نستبدل "التفسير" رغم غموض أساسه، بـ "النقد والتقييم" على وضوح معياره؟.


الحقيقة أننا لا نستبدل "التفسير والفهم" بـ"النقد والتقييم" في ضبط السلوك، بل ندعم كل منهما بالآخر، نقد الأفعال هو إجراء الأحكام الشرعية والعقلية عليها بغض النظر عن دوافعها، ومجال النقد هو جواب السؤال: هذا الفعل صواب أم خطأ ؟ ممكن أم مستحيل ؟ نافع أم ضار ؟. أما الوعي، وهو حصيلة فهم السلوك، فأمر يختلف عن ذلك، فهو إدارك مكامن الدوافع التي صدرت منها الأفعال بغض النظر عن حكمها الشرعي، ومجال الوعي هو جواب هذا السؤال: هذا الفعل عن أي دافع صدر ؟، وأي رغبة يحققها لصاحبه ؟، وهل هذا الدافع وتلك الرغبة هي حقا ما يظن هذا الرجل أن فعله قد دار حولهما ؟ أم أن لهذا الفعل مقاصد لا يعيها هو؟ وما هي تلك المقاصد ؟ وكيف نستدل عليها ؟


أما عن ضرورة التكامل بين كلا المسلكين فتعود إلى أن الدوافع الشريرة إن كانت خارجة عن مجال إدراك الإنسان لها، فلا يأمن على نفسه أمران: أحدهما أن تتبدى في شكل أفعال محمودة من الناحية العقلية والشرعية، غير أنها تستغل هذه الأفعال لتنحرف بصاحبها عن غايات هي أكثر خطرا وأعمق ارتباطا بأصل وجوده، فيكون الإنسان في طريقه إلى الهاوية لأن الرغبات المحضة لا تعرف الغايات الرشيدة. والأمر الآخر: أن تسفر عن نفسها في شكل أفعال مذمومة في الشرع والعقل، لكنها تعبث بمعيار النقد ذاته عند الإنسان، فيعمد إلى تحريف أحكام الشرع والعقل بحيث تلائم أفعاله فلا تكون في موضع نقد منها.


الوعي إذا يختلف عن العلم، أو هو نوع خاص منه وهو الاستبصار بالذات، أو "البصيرة"، والوعي أو البصيرة، ضروري لخير الإنسان، لأن الوعي بذاته وبمحتواها بشكل شامل يجعله مدركا للخطر المحدق بذاته بشكل شامل أيضا، في حين أن هذا العنصر، أي الشمول، تفتقده تلك الأحكام العقلية والشرعية التي يجريها الإنسان على أفعاله المحدودة. الخطر الشامل لا تدفعه النظرة غير الشاملة.


ولسنا نقتحم أمورا غريبة بهذا الكلام، فـ"مراقبة النفس" أمر مألوف في تراثنا، ومفهوم "الهوى" كذلك معروف لدينا، وهو الدافع النفسي، ومفهوم "البدعة" كذلك، وهي السلوك الناشئ عن دافع شرير استطاع العبث بمعيار الشرع، ومفهوم "التربية" كذلك، وهو ترويض النفس على مقاومة دوافعها الشريرة، كلها مفاهيم مألوفة ومعروفة.


غير أننا قد تعودنا أن نتناول تلك الدوافع الشريرة دائما من ثلاث جوانب دون ثلاث، إننا، أولا، نتناولها كمفاهيم بسيطة غير مركبة، كحب الدنيا وحب الشهرة وحب الرئاسة وخوف الموت والأذى، وما يتفرع عن تلك المعاني من عمالة للنِّظام أو تهور في العمل أو ما إلى ذلك. ثم إننا، ثانيا، نتناولها بحيث نقتصر على ما ندركه منها دون مالا ندركه بوعينا، ثم إننا، أخيرا، نتناولها في تطبيقاتها التي تصلح للفرد دون ما يختص منها بالجماعة.


ولما كان البسيط من الدوافع لا يفسر المركب من السلوك، والجلي من الدوافع لا يفسر ما يصدر عن الخفي منها، والفردي من الدوافع لا يفسر ما يصدر عن الجماعي منها. فإننا ما زلنا نتخبط في فهم أنفسنا كتيار إسلامي، ولا نزال نقف أمام هوة سحيقة تعزلنا عن مكمن مشكلاته، عاجزين عن إدراك كنهها، وإذا فلا بد من تغيير فكرتنا عن بساطة مفهوم "الهوى"، والتفكير بطريقة تلائم الطبيعة المركبة والخفية والجماعية لذلك التيار.


وأحسب أننا، بعد هذا التوضيح، قادرين على التفطن إلى أننا لا نقصد بفحص دوافع التيار الإسلامي كجماعة بشرية، ذلك المفهوم المزيف للتربية، والذي يتحذلق به "قادة" ذلك التيار مع أتباعهم الجدد، فنحن نفحص التيار نفسه، الجماعة نفسها، حيث المربون هم المرضى، بل هم من يصدر المرض ويرعاه ويحرسه ويؤصل له، إنهم، وبحكم كونهم قادة، بيت الداء.


ثورة يناير وصفعة القدر :


غير أن هذا التأصيل النظري لضرورة الوعي ليس هو ما استفزنا في الحقيقة مراجعة أصول الدوافع النفسية للتيار الإسلامي بمختلف توجهاته؟ إن ما استفزنا لذلك هو إعلان فشل الحركة الإسلامية في قيادة التغيير في المنطقة العربية وفي مصر خصوصا، هذا الإعلان الذي تمثل في الثورات العربية والتي كانت ثورة على الأنظمة في الوقت الذي كانت فيه صفعة على وجه الحركة الإسلامية، صفعة بيد القدر جعلتنا نرى "العوام" يتصدرون مشهد التغيير في ثورة يناير وغيرها، ورأينا وراءهم "أئمة الهدى ومصابيح الدجى" يهرولون جاهدين أن يثبتوا لهم و"للعوام" أنهم "مشاركين" لهم في الثورة!، ثم هذا الشجار المضحك المبكي حول "وائل غنيم" هل أصوله (البعيدة) سلفية أم إخوانية .


فلنواجه أنفسنا، إن آثار تلك اللطمة لا تزال على وجوهنا، وألمها لا يزال يعتصر قلوبنا، لم نكن أمل الأمة ولا ضميرها ولا ومعدن كبرياءها، كنا نخدع أنفسنا قبل أن نخدع الآخرين، فوجئنا بأنفسنا مجرد جسم ثقيل يتدحرج بوزنه المترهل دون قدرة على القرار ودون وعي بالهدف ودون إحساس بالمسؤولية، كان تصورنا عن أنفسنا مرتع لخيالنا، "كان صرحا من خيال فهوى".


فشلت الحركة الإسلامية، وفشلت كل محاولات رأب الصدع في الصف الإسلامي قديمها وجديدها، وحق لها أن تفشل، فلم تكن هذه المحاولات تعي أن النزعات والدوافع الدخيلة على التيار الإسلامي هي متأصلة بحيث يصعب انتزاعها بأي محاولات فكرية، بل يصعب حتى رؤيتها، لم تعد تجدي نفعا تلك المقولة التي توصنا بأن: "يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ويعين بعضنا بعضا فيما اتفقنا فيه"، هل يرانا هذا الرجل أطفالا في الروضة حتى تكون أفضل حالاتنا ألا نتشاجر؟ أم يرانا، كما كنا نتمنى، حركة بعث للنبوة نسترد بها دورنا في التاريخ؟ فشلت محاولة الدكتور صلاح الصاوي في تشكيل حديقته الوهمية التي أراد أن يجمع فيها من كل بستان زهرة، هذه الزهرات الجميلة يا سيدي ليست لقطف المحبين، بل هي نفسها مرتع للنزعات المريضة، وهي لأجل ذلك أكثر تجذرا في تربتها من أن يحاول أحدهم إعادة جمعها. فشلت حتى محاولات الحديث عن (تكامل قدري) بين التيارات، والاطمئنان إلى أن (اللوحة أكثر جمالا من بعيد)، وأن يد الله تسير بنا نحو الخير دائما، وهل تعهد الله لنا بأن يسير بنا إلى الخير دائما وتوعد الصحابة بالاستبدال لو تولوا؟.


فشلت كل محاولات التعايش مع مركب النقص بدعوى التسامح، وفشل أيضا كل من أخلصوا للاختلاف بكل عنفوانه ورأوا الحل في استئصال مركب النقص، لم تكن حربهم الشعواء هي ممارسة لاستئصال ذلك المركب، بل كان في حقيقته صراعا بين مركبات نقص مختلفة كل منها تحاول الحفاظ على نفسها بنفي غيرها.


لم يعد بأيدينا إلا أن نستيقط، إلا أن تصحو تلك المزعومة "صحوة"!، لم يعد بأيدينا إلا، وبما عندنا من بقايا فخر بأنفسنا، أن نكون أكثر قسوة على أنفسنا من خصومنا على أنفسهم، فإن كان خصومنا يحاسبون أنفسهم على أنهم لم يتوقعوا الثورة، فسنحاسب نحن أنفسنا على أننا لم نبدأها.


وهم الحصول على الثمرة :


هذا الشعور بأن رياح الثورة قد أتت بما تشتهي سفينة التيار الإسلامي، وأنه أصبح سيد الموقف بسبب الثورة وإن لم يكن صانعها، هذا الشعور قد يعطي انطباعا بأننا لسنا في حاجة إلى مراجعات وإعادة حسابات، وليس علينا سوى أن ننظر إلى الأمام ونغتنم الفرصة.


لا شك أن اغتنام الفرص واجب، لكن من علامات الحماقة أيضا أن نطمئن إلى حصولنا على ثمرة سقطت في حجرنا عن غير استحقاق منا، وعلى عجز عن الوصول إليها بأيدينا، غافلين عن أن حالة العجز هذه ما زالت كامنة فينا حتى لو حُشرت الثمرة بين أسناننا حشرا، وغافلين عن أننا عاجزين عن الحفاظ على تلك الثمرة لو انتزعت منا مرة أخرى.


حتى ذلك التغير المحدود في طريقة التفكير داخل التيار الإسلامي بعد الثورة، مثل هذا التقارب الهش بين الإخوان وبين السلفيين إنها لا تبعث على الطمأنينة لأنها ليست في أحسن أحوالها سوى إجراءات لالتقاط الثمرة الساقطة، ولا ترقى أبدا لتغيير واقعنا العاجز عن فعل أكثر من ذلك، وليست في أسوأ أحوالها سوى نفاقا من الدوافع الشريرة نفسها للكثرة العددية التي هي أقل إصابة بها، ونتوقع أن تعود هذه الدوافع كما كانت بعد أن تهدأ العاصفة كما يتوقع خصوم الأمة أن يعود واقع الأمة كما كان بعد برهة من الوقت.


لن يخدعنا هؤلاء العاجزون بنجاح لم يحققوه، وبكثرة عددية إسلامية لم تكن حاصل جهدهم بل كانت تضخم طبيعي حاصل من الصراع الحضاري الدائر على المسرح الدولي وما يخلفه من عودة جماعية للأمة إلى تاريخها.


تهيئة هامة :


لو اتفقنا أن مسالة المراجعة الشاملة لأصول الدوافع النفسية للتيار الإسلامي لا يجب أن تكون محل اعتراض، ولو استقر لدينا أن الدوافع النفسية ليست بهذه البساطة التي نتصورها دائما، وليست بهذا الوضوح الذي نتوقعه أحيانا، فلنتهيأ إذا لأمر آخر، هو أن اقتناص الدوافع النفسية الخفية له وسائل خاصة تختلف عن تلك الخاصة بتقييم الأفعال تقييما شرعيا أو منطقيا، وسائل لا تولي اهتماما للسلوك إلا من جهة دلالته على أي دافع نفسي غريب أو غير مرغوب فيه.


وسائلنا مثلا لا تعتبر الممارسات الواجبة شرعا في عصمة من الفحص لمجرد أنها واجبة شرعا، لأن الدوافع الشريرة قد تتلبس بأي فعل ولو كان الخشوع في الصلاة، وكلنا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل من الخشوع في الصلاة أمارة على دوافع نفسية برزت في فرقة الخوارج، فوصفهم النبي بقوله: "تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم". فليس لأحدنا أن ينزعج حين نتحدث عن ممارسات واجبة شرعا ونقول أنها تخفي دوافع شريرة، طالما أننا قد أتينا بالقرائن التي تؤكد ذلك.


وسائلنا أيضا كما أنها لا تبالي بخطر الممارسات من الناحية الشرعية، فهي لا تبالي أيضا بتفاهة الممارسات من الناحية العملية، وتعتبرها جديرة بالفحص طالما أنها دالة على مطلوبنا من الدوافع الشريرة. فلا يندهش القارئ حين نقيم وزنا لفعل هو من المباحات قليلة الشأن، فإن ذلك أمر لا تبالي به الدوافع الشريرة أو الدوافع عموما .


انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني إن شاء الله


الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (2)

يحيى رفاعي سرور غفر الله لنا وله ولوالده الشيخ رفاعى سرور رحمه الله رحمة واسعة

السبت 12 نوفمبر 2011


الحركة الإسلامية بين مضمون الكمال 
وعوارض النقص


لابد  لنا من البدء بالحديث عن "جوهر الكمال" المقوِّم لوجود الحركة الإسلامية والذي يمثل النقطة الأعمق فيها، وذلك قبل أن نتعرض لـ "مركب النقص" العارض على ذلك الجوهر، وهناك سببين يفرضان علينا تلك البداية؛ السبب الأول متعلق بضرورة بالتسلسل المنطقي للأفكار، النزعات الدخيلة على التيار الإسلامي لم تنشأ خارج السياق النفسي للوجود الأصيل له، بل تجري مع ذلك الوجود في مجرى واحد يجعل تعيين ذلك الوجود الأصيل بدقة أولا ثم أن نستنتج منه تلك النزعات الدخيلة عليه ثانيا أمر لا بد منه.


أما السبب الثاني الذي يجعل تعيين الوجود الأصيل للتيار الإسلامي أمرا بالغ الأهمية والخطورة، فيتعلق بضرورة الإيمان بذلك الوجود في جوهره النقي ورغم كل ما قد يطرأ عليه من عوارض دخيله. هذا التأكيد على الوجود الأصيل والإيمان به يعصمنا من أي هاجس سلبي تجاه الحركة الإسلامية قد يثبط فينا الفخر بالانتساب إليها، أو يكبت فينا الاستعداد للتضحية من أجلها، أو حتى يذهب بنا إلى الكفر بها تماما؛ هذا فيما يخص إيماننا، أما على الجانب المتعلق بالسجال الفكري بين الحركة الإسلامية وخصومها فتعيين الوجود الأصيل لنا والوعي الكامل به يسلب خصومنا حق تفسيرنا كوجود مزيف يمكن اختزاله في مقولات سيكلوجية أو سياسية أو اقتصادية أو ما إلى ذلك .


تعيين الوجود الأصيل للظاهرة الإسلامية يُلزمنا بالتوجه نحو البداية الزمنية لها، لأن علة الشيء سابقة عليه في الزمان؛ وإنه لأمر مدهش حقا أن نكتشف أن البداية الزمنية للظاهرة الإسلامية هي أيضا بداية زمنية للظاهرة التي تقف منها موقف النقيض، وهي حركة التنوير والتي عرفت فيما بعد بالظاهرة العلمانية؛ أواسط القرن التاسع عشر شهد محمد عبده كبداية لحركة إصلاح أساسها البعث الإسلامي، كما أنه شهد رفاعة الطهطاوي كحركة إصلاح أساسها قيم الحداثة.


محمد عبده وليس حسن البنا، البداية الإخوانية للحركة الإسلامية، رغم تعاطفنا معها، إلا أنها ليست البداية المطلقة، بل طفرة شعبية طرأت على نفس الظاهرة فغيرت وجودها النخبوي السابق عليها.


الظاهرة الثلاثية (الإسلامية/ العلمانية/ الغربية) كمدخل للفهم



وسرعان ما ندرك أن البداية الزمنية المشتركة للظاهرتين النقيضتين لا تبعث على الدهشة بقدر ما تيسر لنا مهمة البحث عن العلة الفاعلة للظاهرة الإسلامية، فلو عثرنا على قاسم مشترك بين الظاهرتين النقيضتين لأمكن حينها أن نعتبره بداية للظاهرة المعنية بالنسبة لنا منهما وهي الظاهرة الإسلامية.


الحقيقة أن الوحدة التي نرجو العثور علينا بين هاتين الظاهرتين النقيضتين تعود بالضرورة إلى موضوع الخلاف بينهما، فثم إذا موضوع واحد يجمعهما في الوقت الذي يفرق فيه بينهما، ولا أعتقد أن موضوعا يتحقق فيه هذا الشرط مثل موضوع "الهيمنة الغربية" التي استطالت بوجهيها العسكري والثقافي .

اشتراك "سيد القطب" و"رفاعة الطهطاوي" في خبرتهما بالحضارة الغربية، ثم عودة كل منهما إلى أمته بوجه هو على النقيض من الوجه الذي عاد به صاحبه، هذا المشهد يمكن اعتباره تكثيفا رمزيا حيا لوحدة المثير الغربي وازدواجية مضمون الاستجابة له، عاد رفاعة الطهطاوي من فرنسا منبهرا بها، فكتب "تلخيص الإبريز في تلخيص باريز"، وصار مبشرا بأفكار الحضارة التي  يعبر عنها المجتمع الفرنسي، بل وإماما للتنوير. أما سيد قطب فقد عاد من أمريكا ناقما عليها مستاء منها، وكتب "أمريكا التي رأيت"، وصار عدوا لقيم الحضارة التي أسفرت عن المجتمع الأمريكي، وهذا ما يبرر لنا اعتباره الشخصية الأكثر تعبيرا عن روح الحركة الإسلامية بتأكيده الدائم على "انتهاء دور الرجل الأبيض"؛ البعض _أثناء نومه العميق_ اعتبر أن الحركة الإسلامية هي في جوهرها حركة إثبات للصفات، فاعتبر سيد قطب هو العدو رقم واحد لأنه يؤول صفة الاستواء!.


ويمكن تفسير أسبقية الطبيعة النخبوية للظاهرة الإسلامية على ذلك التغير الشعبي الطارئ عليها من خلال تعلق جوهر الظاهرة بالمسألة الغربية، فإذا كانت النخبة بطبيعتها تسبق الجماهير في الوعي بتلك المسألة، فمن المتوقع أن تسبق الطبيعة النخبوية للظاهرة شكلها الجماهيري.


ويمكن تأسيسا على تلك العلاقة بين الظاهرة الإسلامية وبين الهيمنة الغربية قبول ذلك الربط الشائع بين هزيمة 1967 وبين المد الإسلامي، ليس كبداية مطلقة أيضا لكن كطفرة حادة في سفور الهيمنة الغربية أسفرت عن تغير كمي مقابل لها في الاستجابة لهذا السفور، ويمكن استنادا إلى ذلك إضافة غزو العراق والانتفاضة الثانية كطفرات حادة أخرى في تلك العلاقة الثابتة وجودا بين الشرق والغرب.


إذا فالظاهرتين الإسلامية والعلمانية هما استجابتين لمثير واحد هو الهيمنة الغربية، وردتي فعل لوضع واحد هو التفوق الغربي؛ لكن رغم وضوح تلك الصيغة الثلاثية التي تجمع بين الظاهرة الإسلامية والعلمانية والغربية، إلا أنه ليس علينا أن نتعجل فنقرر أننا قد وقفنا على مضمون الظاهرة الإسلامية وأنها استجابة للاستفزاز الغربي كما أن الظاهرة العلمانية كذلك، وذلك أن كل من هاتين الاستجابتين للهيمنة الغربية يمكن تأويله على وجه سلبي وآخر إيجابي، فالظاهرة الإسلامية يمكن تأويلها على أنها استجابة هروب إلى الماضي كحالة عجز أمام الحاضر واستحلاب لنشوة مجد تخييلية مزيفة لا يوفرها الحاضر بشكل واقعي؛ كما يمكن تأويلها على أنها تصرف وقائي يقصد حماية الأمة من الذوبان، فأين جوهر الحركة الإسلامية من هذين التفسيرين؟ هل هي درع واقي للأمة أم نوع من التعاطي الجماعي لمخدر البطولات التاريخية؟ كذلك الظاهرة العلمانية يمكن تأويلها على أنها حالة انبهار أعمى يعجز عن التمييز بين التقنية الغربية والقيم الغربية، كما يمكن تأويلها على أنها حركة استلهام عناصر القوة في الحضارة المتفوقة بقصد السيطرة على دوافعها التسلطية، فأي تكمن طبيعة الظاهرة العلمانية من ذلك؟ هل هي حركة واعية مقصدها اقتناص أسباب القوة فعلا أم أنها نوع من الانسلاب الجماعي أمام بريق الحضارة الغربية؟.


هذا التضارب في التأويل، وهو ما يهدد بإفشال أي تقدم في التفسير، يعود بالأساس إلى عزل كل من الظاهرتين عن الأخرى وتناول كل منهما على حدة من حيثيتها كاستجابة للحالة الغربية، وهذا العزل المتعسف بين الظاهرتين يفقدنا معيار التفسير، كما يمنح كلا من الظاهرتين _ نظريا _ فرصة تحريف دلالة الأخرى بشكل متعمد، ويترك كل ظاهرة منهما معرضة لإسقاطات الأخرى. بل وقد أدى ذلك أيضا إلى ظهور كتابات ذات مضمون علماني تحاول الظهور بمظهر الحكيم العاقل الذي يقف موقفا وسطا بين هؤلاء وأولئك، وهو أثناء ذلك يحاول تسميم الأمة بمضامين علمانية بحتة.


الإخراج المقلوب من الطرف العلماني 
لنظرية التحدي والاستجابة


الضرورة المنهجية تقتضي دمجا نظريا للظواهر الثلاثة: الإسلامية والعلمانية والأخيرة التي أثارتهما وهي "الهيمنة الغربية، دمج ثلاثتهم في إطار تفسيري موضوعي واحد وواضح الأسس بحيث يكون حصيلة استقراء وقائع اجتماعية شبيهة ومتكررة في التاريخ؛ وأعتقد أن هذا هو الإسهام الذي قام به المؤرخ المعروف (أرنولد توينبي) في كتابه (دراسة في التاريخ)، وذلك في نظريته الشهيرة والتي تتحدث معادلة ثابتة هي معادلة (الخطر والاستجابتين) والتي عرفت بنظرية (التحدي والاستجابة)، ويمكن إيجازها في أنه "عند تعرض جماعة بشرية معينة لخطر خارجي يهدد وجودها فإنها تتمايز داخليا إلى نمطين من الاستجابة لهذا الخطر، أحدهما هو استجابة الهروب، وتبدو في سلوك نكوصي جماعي إلى مرحلة حضارية أكثر بدائية وخالية من الخطر الراهن بقصد الزوال أمامه؛ واستجابة المواجهة، وتبدو في نزعة تحفز ضد هذا الخطر واستنفار للقوى الداخلية للجماعة بجميع أنواعها بقصد مواجهة ذلك  الخطر؛ ويتحدد مستقبل تلك الجماعة حسب سيادة أحد النمطين على الآخر داخلها، فسيادة نمط النكوص الهروبي معناه فقدان الوجود الحضاري لتلك الجماعة، أما سيادة نمط الهجوم فيؤدي إلى ترقيها في سلم الحضارة وتأصُّل وجودها في التاريخ".


جوهر الحركة الإسلامية هو مواجهة الحضارة الغربية


والسؤال الذي يجعلنا على مشارف الحسم في تفسير الظاهرتين النقيضتين هو: أيهما يمثل نمط الهروب وأيهما يمثل نمط المواجهة؟ وأعتقد أن وضع السؤال بهذا الشكل يجعلنا أكثر تضييقا على الظاهرة الثلاثية بعناصرها، وأقرب إلى الإمساك بها.



ورغم الوضع الذي آلت إليه الحركة الإسلامية على مستوى العالم كطرف صعب أمام الحضارة الغربية في حرب باردة وساخنة هي الأشرس من نوعها، إلا أننا لسنا في مأمن من أن نبدو متحيزين حين نقرر أننا كإسلاميين نمثل نمط المواجهة، وأن الظاهرة العلمانية تمثل نمط الهروب الحضاري، فلا يزال الخطاب العلماني بإيحاء ذاتي لـ(مقلوب) نظرية التحدي والاستجابة، بحيث يبدو من خلال هذا الـ (مقلوب) كنمط مواجهة حضارية مع الغرب، في حين تبدو الظاهرة الإسلامية كنمط هروب.


ويمكن حسم المسألة بتفكيك نظرية التحدي والاستجابة إلى مكونيها الداخليين، ثم رصد تجليات كل مكون منهما في حركة التاريخ واستقراءها وصولا إلى طبيعتها الهروبية أو الهجومية، ثم الوقوف على مدى ملائمة كل ظاهرة لكل نمط .


ونقصد بالمكونين الداخليين لنظرية التحدي والاستجابة، ذلك المتعلق منهما بسلوك الهروب الحضاري، والذي يعود أصلا إلى نظرية ابن خلدون حول "الاقتداء بالمتغلب" والتي أفرد لها فصلا بعنوان: "في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده"، كما تعود في الوقت ذاته إلى ميكانيزم "التوحد بالمعتدي" أو "التماهي بالمتسلط" والذي أُِدرج في تراث التحليل النفسي المعاصر كأحد أهم آليات الدفاع غير الواعية، هاتان النظريتان تمثلان الأساس التاريخي لنمط استجابة الهروب والذي استعاره "توينبي" في صياغة الشق السلبي لنظريته في "التحدي والاستجابة" وهذه هي الفكرة التي تفسَّر من خلالها وعلى مدار التاريخ اضمحلال المجتمعات القديمة الضعيفة وزوالها أمام الأخرى التي توفرت لها عناصر الإبهار وأهمها القوة. وأعتقد أنه ليس علينا بذل جهدا يذكر لنرى بوضوح مدى القرابة بين سلوك "التوحد بالمعتدي" وبين الظاهرة العلمانية كنمط هروب حضاري.


أما المبررات العلمانية المنطقية لاستلهام مصادر القوة عند الخصم للتصدي له، وتلك المقولات العلمانية التي تتحدث عن (الحرص الواجب) فيما يتعلق باستيراد القيم الغربية، هذه المحاولات التي تقصد بها العلمانية تجنب سفورها كحالة نفسية بحتة لا قيمة لها، هذه المحاولات مفهومة من خلال "الأقنعة المنطقية" التي ترتديها ميكانيزمات الدفاع غير الواعية وغير المقبولة أخلاقيا، ويمكن اقتناص مقولات علمانية سافرة كانت قبل أن تستطيع العلمانية تطوير قناعها المنطقي، مثل مقولة (طه حسين) والتي كان يدعو فيها إلى أخذ كل ما عند الغرب حتى النخامة التي يتنخمونها، أو مقولة (أمين عثمان) التي كان يتحدث فيها عن زواج مصر من بريطانيا زواجا كاثوليكيا، وأن مصر حليفة لبريطانيا حتى لو كان السلوك البريطاني خاليا من العدالة.


التوجه للتراث هو عمل من أعمال الحرب وليس نكوصا هروبيا

(المقلوب) العلماني لنظرية التحدي والاستجابة اعتمد في تصنيفه للظاهرة الإسلامية كنمط هروب على البعد التاريخي لهذه الظاهرة كحركة إحياء للتراث واستدعاء لقيم الماضي ورموزه، وهنا نأتي إلى المكون الثاني للنظرية، ذلك المتعلق باستجابة المواجهة الحضارية؛ الحقيقة أن النظرية تتحدث عن النكوص الحضاري تقوم به الجماعة لا بقصد إزالة الخطر، بل بقصد إزالة الذات الحضارية من أمام الخطر، التنازل عن ذلك المستوى من الرقي الحضاري الذي يمثل فيه ذلك الخطر، "توينبي" يضرب مثلا لذلك هو تقهقر بعض الجماعات البشرية من الزراعة إلى الرعي حين يمثل خطر الجفاف، الجفاف خطر على الجماعات الزراعية وليس على الجماعات الرعوية، الجماعة إذا تتنازل عن كونها زراعية لنفي نفسها جزئيا أمام الخطر، هذا هو النكوص الماضوي الهروبي الذي تتحدث عنه النظرية.



عملية إحياء التراث ليس لها أي علاقة من قريب أو من بعيد بما سبق من تعريف لمفهوم النكوص الهروبي، استدعاء المكون التاريخي للجماعة هو إحداث نوع من التكامل داخل تلك الجماعة، بل وعلى نقيض ما ذهب إليه معتنقو (مقلوب) نظرية التحدي والاستجابة، هذا التكامل الداخلي في الجماعة ليس مجرد تطوير وحسب، إنه تطوير بقصد ممارسة العداء مع الأمم الأخرى، أو على الأقل: التحفز ضدها. كل التجارب التي استعرضها الدكتور "حامد ربيع" في كتاب "سلوك المالك في تدبير الممالك"، كنماذج حية لفكرة إحياء التراث في التاريخ المعاصر، كلها نماذج قتالية استعلائية تخلو من أي نبرة تعايش حضاري فضلا عن هروب حضاري.


الصهيونية والنازية والفاشية كلها نماذج استلهمت الماضي في سياق سياسي وعسكري تغلب عليه أقصى حالات الرغبة في البقاء على حساب الآخر، بدءا بالأفكار والمعتقدات والأساطير وانتهاء بالتحية الرومانية التي تم إحياؤها في المعسكرين النازي والفاشي  .



البعد التاريخي في الصراع الحضاري.. النازية والفاشية

العنصر التاريخي يبدو أيضا في ذلك الحوار الذي دار بين جراتسياني وبين عمر المختار، والذي ذكره الأول في مذكراته ووضعت بنصها في الفيلم السينمائي المعروف :



البعد التاريخي في الصراع الحضاري عمر المختار وجراتسياني


توجه الظاهرة الإسلامية نحو التراث أو التاريخ ليس عملا هروبيا، بل على العكس، هو عمل من أعمال الحرب على المستوى الحضاري، وأشبه ما يكون باستدعاء قوات الاحتياط في عالم العسكرية. إنه تنظيم للصف الداخلي للمجتمع حيث يشكل الماضي أحد عناصره الروحية والفكرية، وحيث يمنح ذلك الماضي كل ما يلزم المجتمع من رموز ملهمة في مواجهته مع الخطر المحيط به.



وقد يشمئز أحدهم من وضعنا للحركة الإسلامية مع حركات عنصرية مرفوضة إنسانيا مثل النازية والصهيونية لاستناد كل منها إلى وجهة نظر تقوم على الاستعلاء على الآخرين، على هذا المشمئز أن يعي أننا عنصريون في أحد تعريفات العنصرية، فنحن نفرق بين الناس على أساس الدين، لكننا إنسانيون لأننا نتجاهل أي شيء آخر خلاف الدين، فثم إذا صلة تربطنا بالنازية والصهيونية، وجه الشبه هو أن كل منها يدعي أنه خير الناس وأن سيادة الناس واجبة عليه، أما الفرق بيننا فهو في صدق الدعوى وليس في مضمونها.


تعيين البعد النكوصي للظاهرة العلمانية

لكن، إن كانت عملية استدعاء التاريخ عموما أو إحياء التراث الإسلامي خصوصا عملية بريئة كل البراءة من تهمة (النكوص الحضاري)، وإذا كان استعراض وقائعها في التاريخ تدل دلالة عكسية على تلك التهمة؛ وإذا كانت الظاهرة العلمانية هي الممثلة الوحيدة لنمط الهروب الحضاري، فأين إذا ذلك السلوك النكوصي في الظاهرة العلمانية والذي تحدثت عنه النظرية ؟


الحقيقة أنه ينبغي أن نميز بين الخطر الطبيعي أو الكارثي، وبين الخطر البشري الذي يمثله هيمنة عسكرية أو ثقافية لحضارة مغايرة، النكوص أمام الخطر الأول يتمثل في نكوص بالمعنى التاريخي للكلمة، نكوص إلى مرحلة في تاريخ الجماعة لم يكن فيها الخطر قائما. أما الخطر البشري فهو خطر ذو طبيعة نفسية، إنه اضطراب في علاقة الذات بالآخر وليس في علاقة الإنسان بالطبيعة.


هذه الطبيعة النفسية للخطر الحضاري تجعل النكوص أمامه ذو طبيعة نفسية أيضا، إنه نكوص بالمعنى النفسي للكلمة وليس بالمعنى التاريخي، إنه نكوص جماعي إلى طور طفولي متقدم في النمو النفسي لإنسان هذه الجماعة وليس إلى طور تاريخي متقدم في نشأتها .


ابن خلدون نفسه يشرح الجانب النكوصي في سلوك "التوحد بالمعتدي"، وأنه عودة إلى الماضي من الناحية النفسية الفردية وليس من الناحية الزمنية الخاصة بتاريخ الجماعة، إنه يقرر إن سلوك "الاقتداء بالمتغلب" هو عودة إلى علاقة الطفل مع الأب الذي يقوم بدوره على مستوى التخييل تلك الحضارة المتغلبة، فيقول: ".. ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله. وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً؛ وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم".



التفسير النفسي للتشويه العلماني لنظرية 
التحدي والاستجابة


بل إننا مدركين للأساس النفسي وراء التحريف العلماني لنظرية التحدي والاستجابة، وإعادة إخراجها بشكل مقلوب، ونفهم ذلك من خلال طبيعة الشخصية التي تمارس وهم التوحد بالمعتدي، التوحد بالآخر المحبوب هو رؤية الذات من خلاله بحيث تكون مجرد انعكاس له، والشخصية التي تمارس هذا النوع من الوهم تمارس معه نوعا آخر قرين له، وهو "إسقاط" صورة الذات المكروهة على الآخر، وكلا من التوحد والإسقاط يقوم بوظيفة واحدة، التخلص من القلق، الشخصية العلمانية تخلصت وهميا من قلق الهزيمة بالهروب من مواجهة المعتدي والتوحد به، ثم تخلصت من قلق الهروب وهميا بأن أسقطت تهمة الهروب على الظاهرة الإسلامية التي تمثل بالنسبة لها أنسب موضوع لأنها النمط الذي يشكل تهديدا للنمط العلماني .


وعود على بدأ، فأعتقد أننا بذلك على مشارف استنتاج النزعات الدخيلة على الحركة الإسلامية بعد أن حددنا معالم وجودها الحقيقي والذي طرأت عليه تلك النزعات، وأهم من ذلك، أصبحنا أكثر إيمانا بذلك الوجود الأخلاقي النبيل فروسي الطابع، وأنه وجود يستحق أن نفخر بالانتساب إليه وبالتضحية من أجله.


لكن حديثنا عن "المواجهة الحضارية" كمضمون للحركة الإسلامية يثير تساؤلا آخر: ألا يعد هذا تهجما عليها من حيث أردنا الدفاع عنها؟ ألا يعد اختزال الظاهرة الإسلامية في دافع لا تعيه هو نوعا من الإقرار بأن الظاهرة الإسلامية لا تعين نفسها وبالتالي فهي لا تملك وجودها؟ ثم كيف تفسر ظاهرة ربانية بوقائع حضارية عارضة؟ كيف نقبل بتفسير يجعل الحركة الإسلامية مجرد رد فعل لواقعة زمنية عارضة، حتى لو كان رد الفعل هذا أخلاقيا حميدا ونتخلى عن اعتبارها مرتبطة بمفاهيم إيمانية تتعلق بالله هداية الناس إليه وإعلاء كلمته.



انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث إن شاء الله




الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (3)

يحيى رفاعي سرور غفر الله لنا وله ولوالده الشيخ رفاعى سرور رحمه الله رحمة واسعة

الأحد 11 مارس 2012

لا يسعنا أن نستأنف ما بدأناه دون أن نتخلص من ذلك الإزعاج الجانبي الذي قد تسببه مقولة استدعاء التاريخ الإسلامي وإحياء التراث كآلية للصراع مع الغرب، وما تتضمنه تلك العبارة من أمور منها: أننا استبدلنا مفهوم نسبي أرضي هو "المواجهة مع الغرب" بمفاهيم مطلقة سماوية مثل: إظهار الحق وهداية الناس وإعلاء كلمة الله. ومنها أننا زعمنا أن توجهنا هو توجه نحو التاريخ وليس نحو الله، وأن وجود الله في تاريخنا هو أمر عارض على حركتنا نحوه. ومنها أننا فسرنا التوجه نحو التاريخ على أنه تصرف غريزي غير واع، وأن ذلك يتعارض مع صدقنا مع ذاتنا، إذ كيف يكون صادقا من لا يعي دوافعه .

لا يمس حقيقة الإيمان أن يكون ضرورة نفعية للمواجهة الحضارية :

المسألة الأولى وهي أن قولنا يتضمن تشكيكا في مقاصد مطلقة سماوية زعمتها الحركة الإسلامية كأساس لوجودها، مثل مفاهيم إظهار الحق وهداية الناس وإعلاء كلمة الله. وأننا نزعم في مقابل ذلك بأن الأساس الحقيقي هو مسألة المواجهة مع الغرب؛ فهذا فهم خاطئ بلا شك، إذ نحن لا نستبدل مقاصد نسبية نفعية أرضية بمفاهيم مطلقة أخلاقية سماوية، بل نؤكد على ارتباطهما معا بذلك الرباط الذي يجمع بين الغاية والوسيلة.

الألوهية كمقصد سماوي مطلق، وكل ما يتعلق بها من مفاهيم مثل هداية الناس إليها أو إخضاع الناس لها، لا توجد في عالم الإنسان مجردة من الجانب النفعي النسبي الجزئي، والذي هو غاية الإنسان من إيمانه الذي هو وسيلة له، والجانب النفعي للإيمان متفق عليه بين الله والإنسان في ميثاق الفطرة، كما أنه متفق عليه بين الله والإنسان كجزاء أخروي، كما أنه وعد إلهي للمؤمنين بالتمكين في الأرض والرخاء في العيش والأمن من الخوف والجوع. "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً". فالجانب النفعي في الهداية جزء لا ينفصل عنها.

لا يمس حقيقة الإيمان أن يكون عارِضا على حركتنا نحو التاريخ:

وكما أن الجانب النفعي في الهداية هو أحد جوانبها ولا يقدح في صدق قبولها، فكذلك الجانب العَرَضي للهداية هو من طبيعتها وأمر كامن فيها، وهذا رد على أولئك يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، ويزعمون لأنفسهم فضل التوجه إلى الله عن اختيار مطلق منهم وليس عن تدخل إلهي، فتراهم لأجل وهمهم هذا يستغربون أن تكون الحركة الإسلامية هي حركة جماعية نحو التاريخ وأنها قد اكتسبت صبغتها الإسلامية لما وجدت الله في التاريخ.

لقد عَرَضت لنا الهداية في تاريخنا دون أن نقصد إليه رأسا، تماما كما عرضت الهداية لموسى عند جبل الطور، وكما عرضت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء . الهداية عارضة على الوجود بشكل عام باعتبار مصدرها الإلهي ابتداء، وباعتبار عدم استحقاق الوجود لها بالأصالة، "قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى"، وعلى لسان موسى: "قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى"، فهي نعمة إلهية محضة أن يكون تاريخنا ممتلئ بقيم الإيمان، فعلينا أن نشكر الله تعالى على تلك النعمة، وأن نكف عن الإصرار على أن توجهنا نحو الله هو اختيار بدأناه نحن، وأن نعلم أن الهداية ليست عارضة على الجيل الحالي للأمة الإسلامية والتي نمثله نحن، بل هي عارضة على كل جيل من أجيال تلك الأمة، فكل جيل هو تابع لما قبله بالغريزة، وواجد فيه الإيمان بالوضع الإلهي .

لا يمس حقيقة الإيمان أن تكون بعض مقاصده النفعية منه غريزية وغير داخلة في إطار الوعي الجمعي :

لقد تحدثنا عن ميثاق الفطرة وأن الجانب النفعي فيه لا يقدح في صدق الالتزام به، نضيف هنا أيضا إلى أن ميثاق الفطرة هو ميثاق مع الروح وقبل ظهور الوعي الإنساني، أي أن ميثاق الفطرة هو أول محتوى للّاوعي، فإذا كان الأمر كذلك، فخفاء بعض الجوانب النفعية للإيمان عن إدراك الإنسان هو أمر لا يقدح في صدق الإنسان في إيمانه على الإطلاق. وأنا أقصد بخفاء بعض الجوانب النفعية للإيمان: ما تحدثنا عنه من وظيفة إحياء التراث في المواجهة الحضارية.

عودة إلى نمط الهروب (الظاهرة العلمانية) لاستيعاب فكرة النمط عموما :

المعادلة الوحيدة التي يمكن من خلالها وضع كافة التيارات النفسية في نسق تفسيري شامل، هي أنها أنماط هروبية قد تخلَّقت داخل الحركة الإسلامية لحل أزمة صادمة لذلك النمط، تماما مثلما كان تخلُّق نمط المواجهة نفسه داخل الأمة هو أحد حلين لأزمة صادمة للأمة، وهما حلي المواجهة الهروب، أي أننا الآن نطرح فكرة "نمط داخل نمط"، أو على وجه الدقة: "أنماط هروبية داخل نمط المواجهة".

ورغم أن الأزمة الصادمة للأمة والتي تخلقت عنها نمطي الهروب والمواجهة تختلف تماما عن الأزمة الصادمة لنمط المواجهة بعد تخلقه، ورغم أن أسلوب التكيف الهروبي في الحالة الثانية، والتي أسفرت عن تيارات إسلامية، قد اختلف إلى حد كبير، إلا أن الثابت في المرحلتين (أي مرحلة تخلق نمطي الهروب والمواجهة ثم مرحلة تخلق أنماط هروبية داخل نمط المواجهة ذاته) هو فكرة النمط نفسه؛ أي تلك الآلية اللاشعورية لحل أزمة جماعية .

أعتقد إذا أن هناك سببا وجيها يدعونا للعودة إلى (نمط الهروب العلماني) لاستفراغ إمكانياته النظرية والتزود بكل ما يمكن التزود به من خبرة حول فكرة النمط بشكل عام، حتى نستطيع تناول (الأنماط المتخلقة داخل الحركة الإسلامية)، خاصة وأننا نعتقد أن معنى (الهروب) مشترك بينهما كما ذكرت. لقد استعنا قبل ذلك بالنمط الهروبي لإحراز تقدم في إدراك النمط (النقيض) له وهو نمط المواجهة، وإننا الآن نعاود الاستعانة به لفض مغاليق أنماط (شبيهة) به، وهي الأنماط الهروبية داخل الحركة الإسلامية .

النمط النفسي رغم طبيعته غير الواعية إلا أنه لا يفتقر إلى القصدية والمكر :

لقد ظفرنا بحقيقة هامة تتعلق بنمط الهروب العلماني، واستفدنا منها في تكوين فكرة عن النمط بشكل عام، وهي أن هذا النمط هو (غير واعي)، بمعنى أنك لن تجد علمانيا يبرر لك تبنيه لسخافات العلمانية بقوله: "إنني أشعر بالهزيمة النفسية تجاه الغرب، ولا بد أن أتخلص من قلق الهزيمة هذا، ووسيلتي في ذلك كانت هي تشويه صورة الغرب كخصم حضاري وتخيل أنه مثال ينبغي علي أن أحتذيه، فذلك يحول صورته من مصدر للخطر إلى مصدر للإلهام، ولا يعنيني في ذلك أن وسيلتي تلك هي وسيلة وهمية خيالية، كما لا يعنيني أن تلك الوسيلة تؤدي إلى ذوبان وجودي الأصيل". لن تجد علمانيا يقول لك ذلك بالطبع .

نضيف هنا حقيقة هامة أيضا وهي أن نمط الهروب العلماني أنه رغم طبيعته غير الواعية، إلا أنه لا يفتقر إلى القصدية التي تجعله مدركا لوجوده، وحائزا لعقل خاص به، ومدبرا لحيل يقوم بها، ومستخدما لوسائل يحقق بها غايته. وأنه يستخدم الأفراد الواقعين تحت سطوته لتحقيق مآربه دون وعي أو إذن منهم.

نموذج للقصدية: نمط الهروب يحافظ على وجوده بالنفور من نمط المواجهة :

أنظر مثلا إلى ذلك النفور العلماني الزائد من الظاهرة الإسلامية، لن تجد له مبررا منطقيا يصمد للفحص، ولن ينجح في تفسيره سوى أن نمط الهروب يحافظ على وجوده بنفور بالغ فيه من النمط الذي يهدد وجوده، وهو نمط المواجهة، لأنهما حلان متناقضان لأزمة واحدة وهي أزمة الهيمنة الغربية.

التكفير والعنف والاستعلاء وفكرة الدولة الدينية والتفكير الغيبي، هي خمس كروت حمراء تتربص بها العلمانية لكل وجود إسلامي، لكنك ستجدها كلها عند الفحص مزيفة، وأن أصل أحكام العلمانية ضد الظاهرة الإسلامية يعود إلى أمر مختلف عنها تماما، التكفير مثلا كقيمة دينية سالبة، ليس اختراعا إسلاميا، بل هو متوفر وبصرامة عند المسيحيين تجاه غيرهم، بل بين طوائف المسيحية بين بعضها البعض، ورغم ذلك فهو لم يمنع التقارب بين العلمانيين والأقباط في مصر، العلمانيون (هراطقة) من المنظور المسيحي، والهرطقة مصطلح مطابق تماما في دلالته لمصطلح الكفر. بل إنك ستدهش حين تلاحظ أن الصرامة وشدة الالتزام المسيحي في مسائل الهرطقة لا يقابلها إلا تراخيا إسلاميا مقصودا في أحكام الكفر، حتى لقد أوشك هذا التراخي على تهديد المفهوم ذاته كقيمة سلبية ضرورية لتحديد معالم أي دين، هذا إضافة إلى أن الحكم بالهرطقة في المسيحية _وكما هو معلوم_ يتجاوز الوصف الدنيوي إلى الجزم بمصير أخروي سيء للشخص المحكوم عليه، في حين أن أكثر الإسلاميين مبالغة في مسألة التكفير لا يجرؤ على التدخل في المصير الأخروي، بل ويعتبر ذلك نوعا من التطفل على مقام الألوهية، أي أن أحكام التكفير أقرب إلى المفهوم العلماني من أحكام الهرطقة. ويتضح من ذلك أن المسألة ليست مسألة التكفير، بل هي كراهية النمط الذي يستخدم هذا المفهوم .

إننا لا ندعو إلى أن يتعايش العلمانيين مع أحكام التكفير كما تعايشوا مع أحكام الهرطقة، لكننا نحاكم العلمانية إلى منطقها ذاته، فإن كانت لا تولي قدرا كبيرا بالاهتمام بالأحكام الدينية من حيث المبدأ، فإننا نتشكك في أن تكون أحكام الكفر الصادرة من الإسلاميين هي المصدر الحقيقي للفزع من الإسلاميين. يؤكد ذلك أن الموقف الرافض للظاهرة الإسلامية كان قبل احتداد مسألة الكفر والإيمان عند الإسلاميين، ورغم محدودية انتشار الفئة المهتمة بهذه المسألة عندهم .

قد يقال أن أحكام الهرطقة ليست مقترنة بالعنف عند المسيحيين، على خلاف الإسلاميين الذين يقترن عندهم حكم التكفير بممارسة العنف، والحقيقة أنك ستجد ازدواجية علمانية غريبة أيضا في تناول مسألة العنف السياسي، فستجده مشحونا بأقصى درجات الرفض فقط لو كان صادرا عن مقاصد إسلامية، ومقبولا كوسيلة تاريخية معروفة ومنطقية في التغيير السياسي لو كان بعيدا عن (النمط الإسلامي)، بل ستجد مفارقات مدهشة في هذا الصدد، فالشيخ (عبود الزمر) مثلا هو قاتل ( أنور السادات)، و(السادات) هو قاتل (أمين عثمان)، ودافع القتل واحد في الحالتين: علاقة مشبوهة بأعداء الأمة أمين عثمان وعلاقته بالمحتل البريطاني والسادات وعلاقته بالمحتل الإسرائيلي، ومع ذلك ستجد أن (عبود الزمر) منبوذا، والسادات مقبولا، عبود الزمر (من النمط البغيض) والسادات (داخل في النمط المألوف). نموذج آخر لازدواجية العلمانية في تناول مسألة العنف الإسلامي: الشيوعي (جيفارا) والشيخ (أسامة بن لادن)، جيفارا خارج الديانة، خارج القومية، خارج حتى الأيديولوجية الليبرالية، ومع ذلك فهو مقبول كرمز، (أسامة بن لادن) مسلم.. عربي.. أفرزته الأزمة العربية نفسها ولم يتم استيراده من أزمات أجنبية، ومع ذلك فهو منبوذ، المسألة في الحقيقة ليست مسألة العنف، بل هي كراهية النمط الذي ينتمي إليه بن لادن.

الاستعلاء الديني مبرر آخر للرفض العلماني للظاهرة الإسلامية، لكن ستجد أن هذا الاتهام لا يستطيع الوقوف على ساقين لأنه ببساطة: مقلوب، الإسلاميون هم من تعرضوا لأقذر وأشرس حملة إعلامية ساخرة شديدة الوطء، طويلة الأمد، متعددة الوسائل، لدرجة تحطمت تحتها نفوس كثيرة وتشوهت تحتها نفوس أكثر، حتى أصبح الإسلامي في وقت من الأوقات هو أشبه ما يكون باليهودي المنبوذ في العصور الوسطى، كان على الإنسان الإسلامي أن يعيش في حالة دفاع عن نفسه ضد اتهامات لا حصر لها، فهو جاهل.. شهواني.. مأجور.. وحشي.. سيئ المظهر.. انتهازي.. منافق.. معقد نفسيا. ومع ذلك فالعلمانيون مصرين على أن الإسلاميين يمارسون الاستعلاء، الاستعلاء العلماني مقبول لأنه يؤكد النمط، أم الاستعلاء الإسلامي فخطر جدا على النمط ولا بد من مهاجمته حتى قبل أن يظهر. الاستعلاء الإسلامي المزعوم هو في حقيقته (استعلاء على النمط الإسلامي). ولا يبدو أن المسألة متعلقة برفض فكرة الاستعلاء الديني أصلا، (الاستعلاء البابوي) المتمثل في المظهر المهيب لرأس الكنيسة في أي ظهور إعلامي له ليس مجرد سلوك شخصي، بل هو سلوك ممنهج وأحد أهم ركائز الكنيسة في تعاملها مع شعبها ومع غير شعبها، هل اعترض أحد من رافضي فكرة (الاستعلاء الديني) على (المظهر البابوي) الذي يضاهي مظهر الملوك والقياصرة في العصور الوسطى؟ لم يعترض أحد بل على العكس من ذلك، ستجد تجاوبا علمانيا مع المشهد وتكريسا له، لاحظ كمية الاحترام التي يوليها العلمانيين للبابا في أي لقاء معه، وقارن بين هذا الاحترام وبين التنمر والتحفز العلماني ضد أي تصرف فردي إسلامي قد يحمل معنى الاعتزاز بالطاعة أو النفور من المعصية .

فكرة الدولة الدينية تبدو كأبرز المآخذ بالنسبة إلى الخيارات العلمانية الفكرية لشكل الدولة وخلوها من البعد الديني، لكننا سنجد أن موجة التشنج العلماني ضد الدولة الدينية تنكسر حدتها فجأة حين يتعلق الأمر بالدولة اليهودية التي ترعاها أعتى المؤسسات العلمانية؛ المسيحية أيضا فرضت على العلمانية الغربية الاحتفاظ بهوية الدولة المسيحية على الأقل على مستوى الانتساب الحضاري الرمزي، ستجد تسامحا في العلاقة بين اليهودية والدولة، أو بين المسيحية والدولة، أما في العلاقة بين الإسلام والدولة فستجد علمانيو بلادنا قد كشروا عن أنيابهم بشكل مثير للدهشة. المسألة ليست مسألة العلاقة بين الدين والدولة، بل هي كراهية النمط الذي يتبنى فكرة الدولة الإسلامية.

أيضا ما يزعمونه تفكيرا غيبيا عند الإسلاميين ليس إلا سببا مزيفا للنفور العلماني من الإسلاميين، ذلك التعايش بين العلمانية وبين الصوفية القبورية المستغرقة في الخرافة يهدم تماما هذا الزعم،  أحد الكتاب علق ساخرا على جمعة (في حب مصر)، والتي كانت ثمرة تحالف ليبرالي/صوفي، وكانت بعد جمعة (الهوية الإسلامية)، التي أكد فيها الإسلاميون وجودهم، فكتب مقالا بعنوان: (الليبراليون يتداوون بقنديل أم هاشم)، يسخر فيها من تلك العلاقة بين أعداء (التفكير الغيبي) وبين حاملي لواء الخرافة، ومؤخرا أعلنت (الأضرحة) كمحمية علمانية ضد (الغوغاء) الإسلاميين .

الفائدة التي نجنيها من إدراكنا للطبيعة القصدية اللاشعورية للنمط النفسي :

والذي نود الوصول إليه من مناقشة المبررات (الواعية) للنفور العلماني من الظاهرة الإسلامية، ليس هو دحض الموقف العلماني _ ما لنا وللدحض الآن_ بل تفسير هذا الموقف ورده إلى مقصد (غير واعي) لنمط الهروب، وهو ضرورة الحفاظ على وجوده بالتخلص من النمط المضاد له أي نمط المواجهة، والخلوص من ذلك _وهذا هو الأهم_ إلى أن النمط مدرك لوجوده، ويتخذ التدابير اللازمة للحفاظ عليه، وكل ذلك في غياب من وعي أفراده الواقعين تحت سطوته؛ ذلك ما نعنيه بـ (قصدية النمط).

فإذا سلمنا بذلك فالنتيجة المرجوة هي أن نكون _كإسلاميين_ أقل ثقة بما يحتويه إدراكنا المباشر لنفوسنا، وأن ننظر لأنفسنا كأسرى أنماط نفسية تعي مقاصدها وتتجه نحوها، وتستخدمنا، ولا تعبأ برأينا فيها. إننا باختصار أمام أنماطا ماكرة.

هذا التهيؤ النظري والحذر المنهجي في تناول التيارات الإسلامية كأنماط قصدية غير واعية، رغم أنه ضروري إلا أنه يبقى مجرد استعداد للتفسير، أما التفسير نفسه فيلزمه تعيين الأزمة الصادمة لنمط المواجهة _الذي صاغ نفسه في الحركة الإسلامية العامة_ ثم رد تشكلاته الهروبية اللاحقة _التي صاغت نفسها في التيارات الإسلامية المختلفة_ إلى وظيفتها كحلول للأزمة الصادمة له. أي وضع الحركة الإسلامية في نسق تفسيري شامل .



انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع إن شاء الله


 الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (4)

يحيى رفاعي سرور غفر الله لنا وله ولوالده الشيخ رفاعى سرور رحمه الله رحمة واسعة

الأحد 11 مارس 2012 

تشوه نمطي الهروب والمواجهة, وفائدة ذلك في فهم تدهور التيار الإسلامي :

إذا كان ما افترضناه صحيحا، من أن التيار العلماني والإسلامي يعبران عن نمطي هروب ومواجهة أمام «صدمة الهيمنة الغربية»، أو ما أطلق عليه: «صدمة الحداثة»، فإنه ينبغي أن نجد على أرض الواقع، تبعا لهذا الافتراض، نمط مواجهة  ممتلئ تماما مفاهيم الاستعلاء والتحدي، ويخلو تماما من أي نزعة تعايشية مع الغرب، ونمط هروب ممتلئ تماما بمظاهر الإعجاب بالغرب، ويخلو تماما من أي نزعة عدائية أو ممانعة أو استعصاء، وعلاقة بين هذين النمطين لا مكان فيها لأي تسوية أو قبول.

غير أن العين لا تكاد تخطئ ذلك التشوه المتزامن والمتماثل والذي أصاب النمطين معا، وجعل كل منهما يفقد حدته أو نقاوته، ويتداخل مع النمط النقيض له مستعيرا منه بعض خصائصه دون حرج.

وهي ملاحظة يجب علينا أن نعيرها ما تستحقه من اهتمام، ذلك أنها تقف بنا مباشرة أمام العلة الفاعلة لتدهور التيار الإسلامي، وذلك أنه إذا كان التيار العلماني متدهور هو أيضا بالنسبة إلى شكله الأصلي، وإذا كان هذا التدهور متماثل مع نظيره الإسلامي ومتزامن معه، فالنتيجة التي يمكن أن نظفر بها من ذلك هي أن تدهور التيار الإسلامي يعود في أسبابه إلى مرحلة نفسية هي مرحلة «ما قبل تجلي إرادة المواجهة في شكلها الإسلامي» ، أي يعود إلى إرادة المواجهة ذاتها كإرادة مواجهة، بل يعود إلى ما هو قبل ذلك أيضا، إلى «إرادة التكيف مع أزمة الغرب أساسا»، وذلك استنادا إلى ما أصاب نمط الهروب كذلك، أي أن النمطين باعتبار ما ينطويان عليه من نسب مشترك ومعنى واحد، وكونهما استجابة اجتماعية لمثير الهيمنة الغربية، يبدو أنهما واقعين معا تحت طائلة التدهور الحتمي .

وقيمة هذه النقلة البعيدة التي تحولنا خلالها من فحص السلوك الإسلامي المباشر إلى فحص« إرادة المواجهة» نفسها، أي إلى «ما قبل تمظهر نمط المواجهة في شكله إسلامي»، ثم إلى «إرادة التكيف مع أزمة الغرب» مطلقا، قيمة هذه النقلة هي أنها تضعنا مباشرة أمام العلة الأبعد لتدهور التيار الإسلامي، وتجعلنا قادرين على أن نمس بأيدينا موطن الانحراف وبدايته، وتخفف عنا عبئ هذا الكم الهائل من التفسيرات المزيفة لهذا التدهور والتي تعتمد كلها على فحص «الأعراض» لا أصل العلة، من قصور النظرة الإسلامية وقصة الفيل والعميان الثلاثة، إلى الأمزجة الخاصة بمؤسسي التيارات، إلى الظروف الضاغطة للإسلاميين عموما، إلى الأنانية الفردية أو العمالة أو ما إلى ذلك. وكلها تفسيرات مزيفة تُفقِدنا البداية الحقيقية لسلسلة الأحداث النفسية عند التيار الإسلامي .

مظاهر تشوه نمطي الهروب والمواجهة :

رغم أن مضمون الظاهرة العلمانية هي الإعجاب بالغرب والنفور من التراث، إلا أنه من السهل علينا أن نسجل تشاركا علمانيا ذي طبيعة نضالية ضد ممارسات عدوانية غربية، أبرزها المشروع الصهيوني مثلا، على الأقل على المستوى الإعلامي؛ أيضا الموقف العلماني من التراث لم يعد بتلك الوقاحة التي بدأ بها، فمثلا: العاهة البصرية عند (طه حسين) لم تنجح تماما في خلق تيار أعمى في رفضه للتراث وفي قبوله لقيم الغرب، بل على خلاف ذلك، انحسرت إلى حد ما دعوى إعلان القطيعة مع التراث، ولم تعد هي السائدة في الخطاب العلماني العربي . نموذج (عبد الله القصيمي) و(سيد القمني) لم يعد هو النموذج الأمثل للمفكر العلماني في المنطقة العربية .

لا يمكن تفسير ذلك على أنه نوع من انتصار لـ «نمط المواجهة» وحركة إحياء التراث، وذلك أن نمط المواجهة نفسه لم يعد بذلك الإخلاص المتوقع لنشأته كنمط مواجهة، فقد أصابه أيضا نوع من الشلل فقام بفرض حصارا داخليا حول كل المفاهيم المتعلقة بالصراع، فهذا الذراع الذي لم يخرج لحيز الوجود أصلا إلا لعصر عنق الهيمنة الغربية، قد أصبح مرتعشا لا يقوى على الفعل، لم يعد الإسلاميون يتعاملون مع المسألة الغربية بذلك الحسم المتوقع منهم. بعضهم أصبح تأكيده على قيم التعايش مع الغرب أكثر من تأكيده على ضرورة الاستعداد للتحدي الحضاري، وبعضهم عاش في حالة من (الجهل الاستراتيجي) بمفردات الصراع الثقافي مع الغرب، أيضا فالظاهرة الإسلامية أصبحت مترددة بشأن شرعية الأنظمة الموالية للغرب، وتميل إلى الإقرار له بالشرعية، ومترددة أيضا بشأن الفصيل الجهادي المشتبك عسكريا مع قوى الغرب ومع الأنظمة التابعة له، وتميل إلى التربص به ومحاصرته. وعلى مستوى القيم، فقد فرض الإسلاميون حصارا داخليا حول كل قيمة تسير بهم آجلا نحو المواجهة الحضارية، فُرِض حصار حول مفهوم (التكفير) كقيمة سالبة ضرورية لتحديد الهوية الدينية، كذلك مفهوم الجهاد كممارسة ضرورية للحفاظ على الوجود السياسى .

إذا فهي عطالة وظيفية للنمطين معا وليس انتصارا لأحدهما على الأخر، هذه الحالة قد خلقت جوا من الفوضى توج فيما بعد بما يسمى بـ «اليسار الإسلامي» أو «الإسلام المعتدل » أو « الإسلام المستنير »، وهي كيانات رغم أنها تبدو (فكرية)، إذ عادة ما يسبق اسم رموزها كلمة (المفكر الإسلامي)، إلا أن كل صخبها وضجيجها (الفكري)! لا يعدو أن يكون قدرة لغوية على الجمع بين النقيضين: التوجه نحو التراث والتعايش مع الغرب، ذلك التراث الذي لم ينشأ في الوعي إلا كإمكانية لمواجهة الغرب، وذلك التعايش الذي هو صيغة (صيغة دبلوماسية) لنزعة (الإعجاب بالغرب) والتي بدورها آلية لـ (الهروب من الغرب كخصم حضاري) .

ستجد دائما عند ذلك الكيان الهجين تلك العبارات ذات الشقين: « نحن نعتز بتراثنا لكن لا ننكر تراث الآخرين »، « نحن حداثيون لكننا نرفض الحداثة بشكلها الغربي »، « نحن نرفض الاستلاب النفسي بنوعيه: الاستلاب أمام الغرب أو أمام الأسلاف »، « كلا الأصوليتين خطر: الأصولية الدينية والأصولية العلمانية »، وهكذا .

« الغرب الإسلامي » هو الاسم الذي أطلقه بعض كتابهم على ذلك الكيان، في إشارة صريحة إلى وضعهم الجغرافي باعتبار أن أغلبهم من شمال أفريقيا ويقعون في غرب المنطقة العربية، (محمد عمارة / الجابري/ أركون/ طه عبد الرحمن/ المرزوقي/ الغنوشي)، ولكن هذا الاسم أيضا يشير على المستوى النفسي وبشكل مضمر إلى الرغبة في المقاربة بين « الإسلام » وبين « الغرب» .

بالطبع لا يعنينا كثيرا تلك الفروق البينية عند أفراد ذلك الكيان، ولا يعنينا التفاوت في النسبة بين كمية المظاهر العلمانية والمظاهر الإسلامية بين أفراده، ولا يعنينا أيضا إن كان أحدهم لقح إسلاميته بمضمون علماني أو أن الآخر لقح علمانيته بمفردات إسلامية، فالمحصلة واحدة في النهاية، انظر مثلا إلى ذلك التطابق المدهش بين كتاب «الإسلام السياسي» لـ محمد سعيد العشماوي (العلماني) وبين كتاب « الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية » لـ محمد عمارة (المفكر الإسلامي)، التطابق قد يصل إلى شبهة الاقتباس في الموضوعات وحتى ترتيبها داخل الكتاب، هذا ما نعنيه بوحدة المحصلة وهي تشوه نمطي الهروب والمواجهة وتداخل مظاهر كل منهما مع الآخر .

تداخل نمطي الهروب والمواجهة ..

تشوها وليس اعتدالا :

إننا نهدف إلى رصد «تشوه أنماط التكيف العامة مع أزمة الغرب» باعتبارها مدخلا لرصد «تدهور التيار الإسلامي كنمط خاص هو نمط المواجهة»، لكن هذا الهدف يقف أمامه عائق هو تلك الفكرة الراسخة في الأذهان والتي تنظر لهذا التداخل بين الأنماط ليس على أنه «تشوها» للنمطين كما نفترض، بل على أنه «اعتدالا» بينهما، وبحسب هذه الفكرة: فلا يجوز لنا رصد «التدهور» من خلال «الاعتدال»، وبناء عليه فكل ما يتبع دعوى «التشوه» من نتائج هي باطلة بالضرورة .

الحقيقة أن ما ساعد على فكرة الاعتدال هو «الصواب النسبي» أو حتى «الصواب المطلق» لبعض السلوك الناشئ عن هذا التشوه والتداخل، فالتقارب العلماني مع التراث هو صواب في ذاته، يصعب أن يوصف بأنه تشوه حادث في العلمانية، كذلك فتبني الإسلاميين لفكرة التعايش مع الغرب هو صواب بالنسبة للعلمانيين يصعب وصفه بأنه تشوه حصل عند الإسلاميين .

وهذا الضرب من التفكير يتجاهل أهمية تتبع المسار النفسي للسلوك، ومن ثم يغفل عن «الدلالة النفسية » له، ويمكن بسهولة إبراز الخلل المنطقي في فكرة الاعتدال هذه والناشئ عن ذلك التجاهل من خلال عدة أمرين :

أولا : «التوحد بالمعتدي» و «الصراع معه» رغم أنهما يحققان وظيفة نفسية واحدة هي «نفي حالة الهزيمة»، أحدهما نفيا موضوعيا والآخر نفيا تخيليا، إلا أنهما ليس كل منهما طرف للآخر على متصل واحد حتى يمكن العثور بينهما على نقطة «توسط » أو «اعتدال»، فالاختلاف بينهما هو اختلاف كيفي وليس كمي، والعلاقة بينهما لا تماثل مثلا العلاقة بين طرفي (الإسراف والبخل) أو (التهور والجبن) حتى يكون بينهما توسط، بل هما مسلكين متناقضين تماما بحيث لا يمكن العثور بينهما على حالة «اعتدال». بمعنى أنني أستطيع أن أحب باعتدال، أستطيع أن أكره باعتدال، لكني لا أستطيع أن أمارس الاعتدال بالجمع بين مظاهر الحب ومظاهر الكراهية، فالتراث لم يظهر أمام الوعي إلا كأداة من أدوات المواجهة، والجمع بين التوجه نحو التراث وبين التعايش مع الغرب هو تشويه لـ (معنى) التوجه نحو التراث .

ثانيا : يستحيل أن يكون «الاعتدال» قرارا نابعا من داخل أي من نمطي الهروب والمواجهة، بل تبقى دائما أي مقولة الاعتدال، وصفا خارجيا للتشوه الحادث، وصفا للمظاهر من خارجها، أما من داخل نمطي الهروب والمواجهة فيختفي تماما منطق الاعتدال هذا، لأن كلا من الهروب والمواجهة غريزتين تهدفان للبقاء وللوجود، وغريزة البقاء لا تعرف معنى الاعتدال، أي أن كل من النمطين ينظر للآخر على أنه حالة موت أو حالة عدم، وليس هناك توسط اختياري بين الوجود والعدم .

وهذا ما يدعونا إلى التأكيد على أن «التداخل بين نمطي الهروب والمواجهة» ليست «قرارا داخليا عقلانيا بالاعتدال» ، لكنه «انفعال غير عقلاني بمؤثر خارجي» يجبر كلا النمطين على خيانة نفسه بدرجة أو بأخرى .

الخلاصة

ما نستطيع التأكيد عليه هو أن التدهور الحاصل في التيار الإسلامي يعود إلى تشوه حاصل في إرادة التكيف مع أزمة الغرب، وأن علينا أن نفحص أسباب هذا التشوه جيدا، حتى نصل إلى مبتغانا .
انتهى الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس إن شاء الله


الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (5)

يحيى رفاعي سرور غفر الله لنا وله ولوالده الشيخ رفاعى سرور رحمه الله رحمة واسعة

الأحد 11 مارس 2012

تعيين العلة الفاعلة لتشوه الأنماط والتي هي الفاعلة لتدهور التيار الإسلامي

إذا كان مفهوم الاعتدال لا يصلح لتفسير ذلك التداخل والتشوه بين نمطي الهروب والمواجهة، فهو على الأقل يساعدنا في الكشف عن حقيقة ذلك التشوه، فهو يشير «ضمنيا» إلى الجهة المؤثرة والضاغطة على النمطين والمحدثة لهذا التشوه، إنها ببساطة تلك الجهة التي منحت «التشوه» لقب «الاعتدال».

مقولة «الاعتدال» غالبا تعني: «التماثل مع الحالة الوسطى الفكرية والوجدانية للمجتمع»، وفيما يخص الأنماط فهي تعني: «تنازل النمط للمجتمع عن النقاط الحادة والجوهرية في منطقه الداخلي تحت تهديد فقدانه للمجتمع كبيئة حاضنة له». وهي حالة لا تثير الضيق أو القلق أو الإحراج داخل النمط لأنها تتسم بالبطئ والتواطؤ بين المجتمع والنمط على عدم سفورها وتمريرها بنوع من الخداع المتفق عليه. ولا تتبدى إلا في لحظات خاطفة تسودها رغبة عابرة في الصدق مع النفس، مثل تلك اللحظة التي أقدمت فيها الروائية الماركسية «أروى صالح» على الانتحار بعد نجاح المجتمع في ترويض النمط الماركسي وإجباره على خيانة نفسه، وبعد أن دونت تجربة خيانة النمط لنفسه في مذكراتها بعنوان «المبتسرون» .

فهذا التشوه ليس اعتدالا أو تقاربا بين النمطين، بل هو في حقيقته تقاربا بين كل نمط على حدة وبين المجتمع، يدل على ذلك ما نراه من أن العلاقة بين النمطين لا زالت كما هي: النفور التام والاتهام المتبادل بخداع المجتمع .

إذا كانت «صدمة الهيمنة الغربية» والتي عانى منها المجتمع هي ما تفسر إخراجه لنمطي الهروب والمواجهة في البداية، فإن «صدمة الاغتراب عن المجتمع» والتي عانى منها كل من النمطين هي ما تفسير ما طرأ على كل منهما من تشوهات وتداخل بيني وخلو من المضمون .

سبب ضغط المجتمع على نمطي الهروب والمواجهة رغم أنه هو من أفرزهما في البداية

ولكن، كيف نزعم اضطراب العلاقة بين النمط وبين المجتمع، رغم أننا قد أكدنا في البداية أن المجتمع هو من أفرز النمط ليقوم بوظيفة معينة يحافظ من خلالها المجتمع على ذاته، فنمط المواجهة هو لحشد قوى المجتمع ضد الهيمنة الغربية، ونمط الهروب هو لتحويل الخصم الغربي إلى صديق وحليف ومثل أعلى .

الحقيقة أن الوسيلتان اللتان قصد بهما المجتمع أن يحافظ على ذاته ضد أزمة «الهيمنة الغربية » هما وسيلتان متضاربتان أصلا، فمن يعزم على حشد طاقة العدوان ضد خصمه لا يمكن أبدا أن يلين معه لحظة واحدة بقصد أن يحوله من خصم إلى مثل أعلى صديق، لكن وجود النمطين معا في المجتمع يعني أمرا هاما، هو أن ذلك المجتمع متردد بشأن كل منهما، ولم يقرر المجتمع بعد أن يتبنى أحدهما وتماما ويتنكر للآخر إلى الأبد، فكل نمط هو أمام المجتمع ما بين قبول ورفض، ما بين رضا وسخط، ما بين دعم وخذلان .

فمن جهة : الاستفزاز الغربي المستمر للمجتمع يفوت على المجتمع البيئة الملائمة للتوحد بالغرب كمثل أعلى صديق، لأن هذه البيئة تتطلب نوعا من الخصومة المستترة حتى يتمكن المجتمع من خداع نفسه فينكر وجودها أو يستطيع تبريرها، فيتخيل الغرب صديقا بأي شكل. ولما كانت خصومة الغرب تزداد سفورا يوما بعض يوم، فإن المجتمع غير قادر على منح نمط الهروب كل ثقته، ولا يزال ينظر للعلمانية نظرته لشيء غريب عنه، ولكنه يحتاج إليه لتبرير خديعة الإعجاب بالغرب .

ومن جهة أخرى: فالمواجهة الصريحة مع الغرب أمر فوق طاقة المجتمع وفوق استعداده للتضحية، فهو لذلك عاجز عن منح نمط المواجهة كل ثقته، ولا يزال ينظر للإسلاميين نظرته لشيء غير مرغوب فيه، ولكنه يحتاج إليه كلما شعر بالمهانة أمام الغرب .

والحاصل أن كل من النمطين يشعر تجاه المجتمع بالاغتراب بمقدار رفض المجتمع له، كما يشعر تجاه المجتمع بالألفة والحماية بمقدار قبول المجتمع له. لأن الشعور بالاغتراب هو «اللعنة» التي يصبها المجتمع على أي نمط هو غير راض عنه، و «الآلية» التي يسلكها المجتمع للتخلص من كل ما هو غريب عنه .

علة أن المجتمع أكثر قسوة مع نمط المواجهة في مظهره الإسلامي مقارنة بنمط الهروب

قدمنا ما يدل على أن كلا من نمطي المواجهة والهروب يعاني من أزمة «اغتراب عن الواقع»، لأن المجتمع متردد بينهما، فكل منهما مرفوض من المجتمع من وجه، ومقبول من وجه آخر، وأن ذلك الاغتراب هو علة كل الانحرافات داخل النمط لأن النمط يتشوه ويخلي نفسه من مضمونه كسبا للقبول الاجتماعي .

لكن ليس كل من النمطين سواء بالنسبة لأزمة الاغتراب عن الواقع، فصدمة «الاغتراب عن المجتمع» لدى التيار الإسلامي، أو تحديدا لدى «نمط المواجهة » هي أضعاف نظيرتها الواقعة على نمط الهروب، وذلك لسببين ، أحدهما متعلق بطبيعة المجتمع، والآخر متعلق بطبيعة التراث الإسلامي .

السبب الأول : وهو المتعلق بطبيعة المجتمع، أن نزعتي الهروب والمواجهة ليستا متماثلتين كميا في المجتمع، فالمجتمعات هي أكثر نزوعا إلى الهروب. وابن خلدون عندما كان يتحدث عن ظاهرة «الاقتداء بالمتغلب» لم يكن يتحدث عن فصيل منزوي في المجتمع يمارس التوحد بالمعتدي في هدوء، بل كان في الحقيقة يتحدث عن "المجتمع المغلوب"، أي كان يعني أن تلك النزعة تستغرق كافة أفراده تقريبا. ولذلك يجدر بنا إذا كنا بصدد المقارنة بين قابلية المجتمع لكل من نمطي الهروب والمواجهة، ألا ننخدع بتلك العزلة الشعبية التي يعانيها التيار العلماني، لأن النمط نفسه أوسع انتشارا من غطاؤه الفكري المتمثل في فئة العلمانيين والتي لا تمثل مظهره الوحيد بأي حال من الأحوال، بل تمثل في نزعة الإعجاب بالغرب فقط ذلك الجزء المتحور إلى أفكار .

أى مظهر من مظاهر الإعجاب بالغرب يشير إلى توفر مساحة لنمط الهروب أمام الغرب، وبالتالي يشير إلى أن هذه المساحة مملوءة نفورا من نمط المواجهة معه، الشعور بالكراهية لا يتواجد أبدا مع الشعور بالإعجاب (حتى لو توفرت أسباب طبيعية للإعجاب). ويمكن من خلال مظاهر الإعجاب بالغرب أن نستدل على مدى سيطرة نمط الهروب على المجتمع وتوغله في عقله الجمعي. ويمكن إدراك مدى كارثية الوضع برصد سلوكيات بعينها تبدأ بالاستعراض بالمفردات الأجنبية أثناء الكلام وتنتهي بتأييد المواقف السياسية للغرب ولو كانت مواقف موجهة ضد الأمة .

هذا الإعجاب بالغرب قد يتوارى لحظيا خلف مشاعر سخط قد تنتاب عموم الناس من تصرف عدائي غربي سافر، لكن مشاعر السخط هذه لن تتجاوز كونها (حالا) وليست (مقاما) بالتعبير الصوفي، أي تبقى طارئة سطحية غير متأصلة في البناء النفسي للإنسان المعجب بالغرب. وغالبا ما تجد هذه المشاعر الساخطة تتحول من الغرب إلى الأسباب الداخلية للهزيمة، (التشتت العربي.. صدام حسين.. الحكام العملاء.. إلخ )، «نقد الذات» عادة ما يستخدم لا في «تقويم الذات» بل في «صرف الانتباه عن الآخر»، أما عند الاضطرار إلى الحديث عن العدوان الغربي فستجد ميلا غريبا إلى حصر ذلك العدوان في (دولة معينة) أو (إدارة معينة) في تلك الدولة، أو (إسم معين) في تلك الإدارة، لكنك لن تجد نفورا واضحا من (الحضارة الغربية) بشكل عام، أما لو فرض الحديث عن الميول الاستعمارية للغرب فستجد ما يشبه التبرير لتلك الميول (هذه طبيعة السياسية)، وستجد تلك العقليات ترتاح سريعا لأي اعتذار غربي، وتتمسك سريعا بأي بادرة أمل في تغيير إرادته العداونية (حسين أوباما سيحل الأزمة)، المهم أن مشاعر السخط هذه لن تتحول إلى نمط مستقر يعمل على تطوير نفسه في اتجاه المواجهة .

وما يهمنا هنا من هذا الوضع الذي يبدو فيه نمط الهروب الحضاري مهيمنا على مجتمعاتنا بشكل عام هو وضع تلك الهيمنة على نمط المواجهة كأزمة نفسية هي اغتراب ذلك النمط عن المجتمع وظهوره كنغمة نشاز فيه. ويجب التذكير هنا أن هذا الاغتراب وبين نمط المواجهة وبين المجتمع هو أكبر مما قد نرصده داخل إطار الإدراك الواعى  .

السبب الثاني : وهو المتعلق بطبيعة التراث الإسلامي، لقد ذكرنا أن نمط المواجهة في أي مجتمع يتضمن حركة نحو تراث ذلك المجتمع، وحركة إحياء التراث تعني في سياقها الحضاري عملا من أعمال الحرب، وأن الإنسانية شهدت ذلك البعد الصراعى للتراث بوضوح من خلال النازية والفاشية والصهيونية وما صاحبهم من إحياء للتراث التيوتوني والروماني واليهودي .

وهذا ما فعله مجتمعنا بعد تعرضه لأزمة الهيمنة الغربية، غير أن مجتمعنا قد فوجئ باختلاف جوهري وعميق يميز  التراث الإسلامي عن أي تراث إنساني آخر، فبعد أن هرع المجتمع إلى التراث بقصد الحفاظ على وجوده أمام الهجمة الغربية، إذا بهذا التراث هو نفسه مصدر تهديد للمجتمع .

كل تراث إنساني يهدف إلى تمجيد الإنسان من حيثية معينة، إلا التراث الإسلامي الذي يؤكد على تمجيد الله سبحانه وتعالى، ولذلك ففي الوقت الذي لم يجد فيه أي مجتمع أي مشكلة في استدعاء تراثه، وجد مجتمعنا في التراث الإسلامي تكاليف هي أكثر وطأة عليه من وطأة الهزيمة أمام الغرب .

فمجتمعنا يمجد ذاته، ومظهر تمجيده لذاته هو تشبعه بنمط «عبادة الحاكم» أو «النموذج الفرعوني»، وهو نمط متوغل داخل مجتمعنا منذ آلاف السنين، ومستقل في وجوده تماما عن أزمة الهيمنة الغربية، ومعاد تماما للتيار الإسلامي  ليس من حيث هو نمط مواجهة مع الغرب، لكن من حيث هو نمط معاد  للنموذج الفرعوني في الحكم .

وتتبع أنت بنفسك هؤلاء الأفراد المتشبعين بالنموذج الفرعوني في السلطة، ومن العلامات التي تساعدك على العثور عليهم هو أن أفرادهم عادة ما يعشقون شخص عبد الناصر، تتبعهم وستجد ارتباطا دالا بين هذا النمط النفسي وبين معاداة كل ما هو إسلامي .

وهذا النمط، أي نمط «عبادة الحاكم» شأنه شأن نمط التوحد بالغرب، غير محصور في فئة ظاهرة معروفة، لكنه منتشر في المجتمع كله انتشارا متفاوتا وضمنيا وغير واضح المعالم .

وهكذا فوجئ التيار الإسلامي بأنهم في مجتمع ينفر منهم مرتين، مرة حين ينظر إليهم بعين الغرب فيشعرون تجاههم بأنهم مصدر التخلف، وتارة ينظر إليهم بعين الحاكم الإله فيرونهم كمتطاولين على أسيادهم ويستحقون منهم كل مكروه .

رغم أن المجتمع نفسه كان يحتاج إليه في أزمته الأولى، لكن يبدو أن معاناته من الغرب هي أيسر عنده من إنكاره لذاته وتمجيده لله .

الخلاصة

أن التيار الإسلامي يعاني منذ نشأته من شعور جارف بالاغتراب عن المجتمع، شعورا يصل إلى درجة «الصدمة»، من حيث هو نمط مواجهة مع الغرب، ومن حيث هو نمط توحيدي قائم على إفراد الله تعالى بالعبودية، وأنه وجد في مجتمع يرفضه تماما .

وأن «صدمة الاغتراب» هذه هي أكثر وقعا على «الأنا الإسلامية» من وقع «صدمة الهيمنة الغربية» على المجتمع، وأنه مثلما تكيف المجتمع مع صدمة الغرب بخلق نمطي الهروب والمواجهة، فإن نمط المواجهة نفسه قد تكيف مع أزمة الاغتراب عن الواقع بأنماط داخلية عرفت باسم «التيارات الإسلامية» والتي تحمل كل منها شكلا من أشكال التكيف .

إننا نستطيع، بناء على ذلك، أن نصل إلى المستوى الأعمق في فهم الحركة الإسلامية، فقط علينا أن نرد كافة الأنماط الداخلية تلك إلى معنى التكيف مع صدمة الاغتراب .
 انتهى الجزء الخامس ويليه الجزء السادس إن شاء الله تعالى




الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (6)

يحيى رفاعي سرور غفر الله لنا وله ولوالده الشيخ رفاعى سرور رحمه الله رحمة واسعة

الإثنين 10 سبتمبر 2012

لقد ذكرنا أن الفصائل الإسلامية في التيار الإسلامي العام ليست سوى آليات مختلفة للتكيف مع أزمة نفسية عامة هي أزمة الاغتراب عن المجتمع، وأن هذا «الاغتراب» هو في الحقيقة نتيجة «تغريب» مقصود ومتعمد قام به المجتمع واستهدف به الإسلاميين بسبب خروجهم عن خياراته المستقرة والتي تمنحه نوعا من الإنكار المزيف لأزمة الهيمنة الغربية. وأن هذا «التغريب» هو وسيلة المجتمع لطرد أي نزعة تشذ عنه أيا كانت طبيعة تلك النزعة، وأن اختيار المجتمع لفعل «التغريب» هي أمر طبيعي لأن المجتمع نفسه قائم على الشعور بـ«الألفة» وهو الشعور النقيض للشعور بـ «الاغتراب»، وكأن المجتمع بالغريزة يقصد النزعات الشاذة عنه بالبتر .

أما عن السبب الذي حدا بالمجتمع إلى اعتبار الحركة الإسلامية نغمة شاذة عنه، فهو أن قوام الحركة الإسلامية وأصل جميع مفرداتها هو نمط المواجهة الحضارية، أي تلك النزعة النفسية نحو تحدي الحضارة الغربية ورفض هيمنتها، أما المجتمع فهو مشبع تماما بنمطين مضادين لنمط الحركة الإسلامية، وهما أولا: نمط الهروب الحضاري، أي تلك النزعة إلى الإعجاب بالغرب كحل لأزمة الهزيمة الحضارية بتحويل الخصم الحضاري إلى مثل أعلى،  وثانيا: نمط الحاكم الإله، وهي تلك النزعة إلى تأليه الحاكم وقبول سطوته بل والحرص على بقائها .

وذكرنا أن أصل التضاد بين هذين النمطين وبين نمط المواجهة الحضارية يختلف فيه كلا منهما عن الآخر، فحيثية التضاد بين نمط المواجهة الحضارية وبين نمط الهروب الحضاري هي حيثية مباشرة، وتعود إلى التنافي بين معنى الهروب ومعنى المواجهة، أما حيثية التضاد بين نمط الحاكم الإله وبين المواجهة الحضارية فغير مباشرة، وتعود إلى أن المواجهة الحضارية عموما يتبعها حشد واستنفار للتاريخ والتراث الخاص بتلك الجماعة لدعمها معنويا خلال الصراع مع الحضارات الأخرى، وهذا سلوك خبرته الإنسانية في الحركة النازية والحركة الفاشية وعودتهما إلى الحضارة التيوتونية والرومانية، والحركة الصهيونية وعودتها إلى التاريخ اليهودي بطقوسه وتعاليمه، وموطن الإختلاف بين الحركة الإسلامية وبين المجتمع هو أن التراث الوحيد والمتاح أمام نمط المواجهة الحضارية هو التراث الإسلامي، وهو تراث يقوم أصلا على العداء للنموذج الفرعوني للحكم، أي التأليه السياسي للإنسان، ومن ثم حدث التصادم بين الحركة الإسلامية وبين المجتمع المشبع بنمط الحاكم الإله .

غير أن هذا التضاد الأخير ورغم أنه غير مباشر، إلا أنه أكثر تجذرا وتأصلا من الناحية الوجدانية والتاريخية في المجتمع المصري، وأكثر حسما وفاعلية في أزمة اغتراب الإسلاميين عن ذلك المجتمع منذ عقود، وذلك لما بين ذلك المجتمع وبين الحاكم من صلة وطيدة تضرب بجذورها إلى نشأة المجتمع نفسه .

سبب التآزر والتداخل بين نمط الهروب الحضاري

ونمط الحاكم الإله

ورغم أن نمطي  «الهروب الحضاري»  و«تأليه الحاكم» يختلفان في الموضوع المباشر لهما، والذي هو «الحضارة الغربية» في الحالة الأولى، و«الحاكم الإله» في الحالة الثانية، إلا أنهما يعودان فيلتقيان في غياهب النفس عند نقطة عميقة واحدة، ألا وهي نقطة «التوحد بالمعتدي» فكل من «الحضارة الغربية» والحاكم المستبد هو معتدٍ، وكل منهما لا مخرج من أزمة اعتدائه إلى مواجهته أو نفي حالة الخصومة معه بشكل متخيل بتحويله من خصم إلى مثل أعلى. فهذا سبب التداخل بين النمطين وتفهم كل منهما للآخر في المجتمع، ولذلك كانت العلمانية لها السيادة دوما في المجتمع رغم أن العلمانيين أقلية فيه.

أصل تشبع المجتمع المصري بنمط الحاكم الإله

هناك مشهد يلخص سبب عداء المجتمع المصري، من حيث هم مشبعين بنمط الحاكم الإله، مع الإسلاميين، من حيث هم ممثلين للتراث المعادي لفكرة الحاكم الإله، ألا وهو مشهد «البلطجية» مع ثوار الخامس والعشرين من يناير، ثم مشهد بكاء ربات البيوت بعد خطاب مبارك الثاني شفقة عليه، وهو ما كاد يودي بالثورة، وما أعقب ذلك المشهد من ظاهرة «أولاد مبارك»، ثم مشهد حصول «أحمد شفيق» على نسبة غير متوقعة في انتخابات الرئاسة والتي كادت أن تودي بالثورة وتجهضها «شعبيا». لقد بات واضحا للجميع أن الاستبداد السياسي في مصر له أساسه النفسي المتأصل في المجتمع ذاته، وهو تعلق الشعب بالحاكم المستبد، والخوف من الحرية والعيش دون استبداد

والحقيقة أن موقف المجتمع المصري من الإسلاميين على مدار عقود طويلة هو نفسه موقف «أولاد مبارك»  من الثورة، وهو نفسه موقف نصف المجتمع المصري حين انتخب «أحمد شفيق» في سباق الرئاسة. وكلا الموقفين يصدران عن دافع نفسي واحد هو الحرص على الحاكم المستبد، والغيرة أن تنتهك حرمات ذلك الحاكم، والحنق على كل من يتطاول عليه. ولا يميز أحد الموقفين عن الآخر سوى الظهور الفج لدافع النفسي في حالة العداء للثورة، وكمون نفس الدافع في حالة ما قبل الثورة تجاه الإسلاميين. وكل معاد للإسلاميين، من حيث هو مشبع بنمط الحاكم الإله، هو، من منظور معين، «بلطجي» معاد لكل من يعادي الحاكم المستبد، حتى لو كان مثقفا، بل وحتى لو كان يبدو كمعارض سياسي .

ولإلقاء الضوء على تلك النزعة العريقة في مجتمعنا يكفينا الرجوع إلى الدكتور  «جمال حمدان» وكتابه: «شخصية مصر» لنقف على نشأة دافع الحرص على الحاكم المستبد منذ فجر تاريخ مصر، وإليكم نص ما قال :

 « الحقيقة الكبرى في كيان مصر هي أنها بيئة نهرية فيضية لا تعتمد على المطر الطبيعي في حياتها، وإنما على ماء النهر. وقوامها هو زراعة الري – الري الصناعي- لا الزراعة المطرية. ومن هنا بالدقة يبدأ كل الفرق في حياة المجتمع النهري وطبيعته. ففي البلاد التي تعيش على الأمطار مباشرة يختزل المجهود البشري إلى حده الأدنى. فبعد قليل من إعداد الأرض والبذر يتوقف العمل أو يكاد حتى الحصاد. وبين هذا وذاك فليس هناك من يحفر الترع والمصارف أو يقيم الجسور والسدود، وأهم من هذا كله أن ليس هناك من يمكنه أن يحبس عنك المطر أو يتحكم في توزيعه .

حقا إن الزراعة المطرية عرضة لذبذبات المناخ، وفلاحها من ثم تحت رحمة الطبيعة، لكنك لست بحاجة ـ ولن تستطيع إن أردت، وهذا هو المهمـ أن «تخطط» المطر، من هنا فقد تكون الطبيعة سيدة الفلاح، ولكن الفلاح بعد ذلك سيد نفسه، وهذا في نفس الوقت يمنح الفلاح فرصة للفردية بدرجة أو بأخرى .

أما في بيئة الري فالأمر مختلف كل الاختلاف، فالوادي في فجر تاريخه ليس مصرفا طبيعيا ولكنه مستنقع اسفنجي ملازي مشبع، ولا زراعة ولا تعمير إلا بعد التصريف و «التقنيل»، لا بد – يعني – من مجهود بشري جماعي ضخم حتى تُعد الأرض مجرد إعداد لاستقبال البذرة، وبعد هذا فلا بذر حتى توصل المياه إلى الحقول، أي لا بد من شبكة غطائية كثيفة من الترع من كل مقياس ابتداء من قنوات الحمل وقنوات التغذية إلى مساقي الحقول، حتى تزرع أذن لا بد لك أولا من أن تعيد خلق الطبيعة، ثم ما جدوى تلك الشبكة إذا لم تسيطر على أعناقها ورؤوسها بالنواظم والقناطر والسدود؟ أعني أي جدوى فيها بغير «ضبط النهر»؟. وأكثر من هذا ، ما جدوى الجميع بغير «ضبط الناس»؟ إن زراعة الري إذا تركت بلا «ضابط» يمكن أن تضع مصالح الناس المائية في مواجهة بعضها البعض مواجهة متعارضة دموية، ذلك أن كل من يقيم على أعلى الماء يستطيع أن يسيء استعماله إما بالإسراف أو بحبسه تماما عمن يقع أسفله، أي أن كل حوض علوي يستطيع أن يتحكم في حياة – أو موت – كل حوض سفلي، وكل من يقع على أفواه الترع يستطيع أن يهدد حقوق المياة لمن يقع على  نهايات الترع, كذلك يمكن للمحاباة والتحيز أن تسخو بالماء لمن تريد وتقبضه عمن تريد، إن العلاقات المائية داخل الوادي بأكمله، أشبه ما تكون بقانون الأواني المستطرقة، فكل تغير فيها هذا يستتبعه بالضرورة تغيير هناك وأي مضخة كابسة هنا هي بمثابة مضخة ماصة هناك .

المحصلة إذن واضحة: بغير ضبط النهر يتحول النيل النبيل إلى شلال محطم جارف، وبغير ضبط الناس يتحول توزيع الماء إلى عملية دموية، ويسيطر على الحقول قانون الغاب والأدغال. ولو تركت البيئة المصرية اجتماعية لما تطورت عن الغاب الطبيعي الذي بدأت منه، والواقع أن البيئة الفيضية يمكن أن تجعل من «المجتمع الهيدرولوجي» - كما يسميه برون – مجموعة من المصالح المتعارضة، فتصبح سلسلة الأحواض سلسلة من المتنافسين، ومما له مغزاه أن كلمة منافس في اللاتينية مشتقة من كلمة نهر  rivalus, rivus وليس صدفة كذلك أن المصريين القدماء اشتهروا بكثرة الخصام والتقاضي، وفيما بعد بالأخذ بالثأر .

في ظل هذا الإطار الطبيعي يصبح التنظيم الاجتماعي شرطا أساسيا للحياة، ويتحتم على الجميع أن يتنازل طواعية عن كثير من حريته ليخضع لسلطة أعلى توزع العدل والماء بين الجميع، سلطة عامة أقوى بكثير مما لا تكون الطبيعة وحدها سيدة الفلاح، وإنما بين الاثنين يضيف الري سيدا آخر هو الحاكم، هنا يصبح الحكم والحاكم «وسيطا» بين الإنسان والبيئة لا يتعامل مع الماء مباشرة، وإنما من خلال الحاكم، وبتعبير آخر فإن الحكومة – فكرة وجهازا – هي بالضرورة أداة التكامل الأيكولوجي بين البيئة والإنسان، إنها تبدأ نتيجة وضرورة جغرافية ، لتنتهي «عاملا جغرافيا» بكل معنى الكلمة»، انتهى كلام د. جمال حمدان

ويبدو أن تأليه المصريين القدماء صراحة للفراعنة لم يكن سوى (ضرورة تمظهرت في عقيدة)، فالنيل نفسه، الذي هو منشأ الضرورة ومبعثها، كان مقدسا على امتداد جميع الأسر الفرعونية وعلى اختلاف معبوداتها كما هو معروف. ومع استمرار (الضرورة للاستبداد) في حياة المصريين ظلت النزعة إلى تقديس الحاكم كامنة في الضمير المصري على مر العصور حتى بعد أن زالت الديانات المؤلهة للفرعون وحتى بعد الفتح الإسلامي، ولطالما حرص المصريون على تطعيم أي معتقدات وافدة عليهم بمبدأ عدم المساس بالحاكم، حتى قال قائلهم للحاكم الفاطمي :

ما شئت لا ما شاءت الأقدار     فاحكم فأنت الواحد القهار

فأي سلبية سياسية عند المصريين، وأي تبرير للخضوع للحاكم إنما هو من جنس عبادة الفراعنة قديما، وبقايا منه. وأي تحفز من المجتمع المصري ضد أي فصيل مناوئ للسلطة إنما هو من جنس التحفز ضد ما يهدد الفرعون الإله قديما وبقايا منه .

هذه الثلاثية التاريخية المسيطرة على المشهد المصري منذ سبعة آلاف سنة، أعني ثلاثية الحاكم والأرض والشعب، يلخصه بدقة أهم مشاهد فيلم «شيء من الخوف»، وهو مشهد العقاب الجماعي لأهل القرية، حين أغلق (عتريس) هويس الماء وجفف الأرض وأفسد الزرع وقعد الفلاحون في صمت وحزن واستكانة، صحيح أن المشهد انتهى بـ «فؤادة» وهي تكسر حالة العقاب تلك بفتحها الهويس، إلا أن الواقع المصري دوما لم يكن فيه «فؤادة»، وصحيح أن المشهد يتعلق بالبيئة الريفية، إلا أن البيئة الريفية في مصر تبقى هي جسم المجتمع والطرف السياسي الحقيقي فيه، والذي يشكل في النهاية صورة الحياة السياسية في مصر .

أعتقد أننا بذلك تحسسنا سببين رئيسين لعداء المجتمع للحركة الإسلامية، وتسليطه سيف «التغريب» نحوها طيلة عقود، بقي أن نحلل مضمون عملية التغريب تلك، وكيف استغرقت حياة الحركة الإسلامية قسرا وشتت جهدها وشوهت أهدافها وعطلت مسيرتها حين تحولت إلى أزمة داخلية عميقة لم يكن الشغل الشاغل لها سوى التخلص منها أو التكيف معها .

انتهت الحلقة السادسة ويليها الحلقة السابعة إن شاء الله



الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (7)

يحيى رفاعي سرور غفر الله لنا وله ولوالده الشيخ رفاعى سرور رحمه الله رحمة واسعة

الجمعة 21 ديسمبر 2012

تحديد موضوع الدراسة:

التمييز بين (الإسلامي) و(المتدين).

فاشلة هي محاولات تمييع الفروق بين الشخص (الإسلامي) والشخص (المتدين)، إننا في دراستنا للظاهرة الإسلامية لابد أن ننزعج كثيرا من ذلك الخلط، إذ هو تضييع لموضوع الدراسة الذي يجب أن يبقى محددا معينا بما فيه الكفاية، وذلك كي نتلمس أعراض الظاهرة بشكل دقيق، فلا ننسب إليها ما ليس منها، ونفهم جيدا ما هو منها .

المفارقة العجيبة هي أن تلك المحاولات لتذويب الفروق بين (الإسلامي) و(المتدين) تأتي من بعض المناطق في المعسكرين المتخاصمين على حد سواء، من الإسلاميين ومن خصومهم، غير أنها تحمل في كلا من المأتيين غرضا هو على النقيض من الآخر، فـ(الإسلاميون) يقصدون من نفيهم للفرق بينهم وبين (المتدينين) أن يتخففوا من عبئ الاختلاف بعض الشيء، هربا من عدوان المجتمع عليهم، فكأنهم يقولون: «كفوا عنا نظراتكم المرتابة، نحن مثلكم تماما لا نتميز عنكم في شيء، لسنا من كوكب آخر، نحن مجرد (متدينين) غير أننا نصبو إلى بعض ما لا تنكرونه أنتم أيضا من أمور تتعلق بتطبيق الشريعة وما إلى ذلك».

أما خصوم الحركة الإسلامية فمقصدهم من نفس الفكرة هو مهاجمة (الأنا) الإسلامية ونفي شرعية وجودها ككيان متميز، ودحض مبرراتها كظاهرة، وكأنهم يقولون: «من أنتم؟ أي شيء أضفتموه إلى المجتمع؟ وعلى أي أساس تستندون في دعواكم أنكم عنوان الهداية ومعقد الأمل؟ ليس شيئا مما تحرصون عليه إلا ويحرص عليه غيركم من أخلاق حميدة ومناسك دينية بل وأمل في تطبيق الشريعة. لستم سوى مجموعة ادعاءات.»

لكن .. ورغم تلك المحاولات.. إلا أنه يبقى الشعور بالاختلاف ثابتا مستقرا سواء في وعي الإسلاميين أو في وعي المحيطين بهم، وفاعلا يفرض نفوذه على الجميع، ويأتي بآثاره رغم كل شيء، فلقب (الأخ) أو وصف (الملتزم) المتداولين في الوسط الإسلامي يعبر عن شعور قوي بأنه ثم فرق نوعي بين الإسلاميين وبين غيرهم، يعبر عن شعور بأنه ثم هدف مشترك ومقصد واحد ومصاعب وعقبات واحدة تحول بينهم وبين هذا الهدف وذلك المقصد حتى وإن تباينت واختلفت المناهج والاتجاهات الإسلامية، بين (التبليغي) وبين (الإخواني) رابطة ما، رغم تباعد الشقة بينهما في الظاهر، يظل كلا منهما أقرب لصاحبه من (العامي) الذي لا يحمل ما يحملانه من هم .

أما لقب (السُنّي) الذي لصقه (العوام) بالإسلاميين فلم ينبت من فراغ، بل يقوم بنفس الوظيفة التي يقوم بها لقب (الأخ) عند الإسلاميين، إنه تعبير عن وعي بالاختلاف، اختلاف ضمني قد لا يحسن التعبير عنه بدقة حتى الإسلاميون أنفسهم أو (العوام)، ومهمتنا هي إخراج ذلك الشعور بالاختلاف من حيز الغموض إلى نطاق الوضوح .

الفرق بين المتدين وبين الإسلامي

المقصود بـ (المتدين) هنا هو ذلك الذي يشكل الوازع الديني عنصرا هاما في حياته اليومية، غير أنه راض عن المجتمع الذي ينتمي إليه، فلا يُطلَق عليه من المحيطين به لقب (سنّي) أو (أخ)، والفرق بين (المتدين) وبين (الإسلامي) لا يتعلق (بدرجة) التدين، بل هو فرق نوعي كامن في (وظيفة) التدين، الدين لدى (المتدين) لا يقوم إلا بوظيفة راحة الضمير على المستوى الفردي، أما (الإسلامي) فوظيفة التدين عنده أبعد من حدود شخصه، إنها وظيفة حضارية بامتياز، مضمون تدين (الإسلامي) ليس فقط إراحة ضميره كشخص، ولكنه استدعاء للتراث الإسلامي بوصفه مصدر للطاقة النفسية والمدد الفكري اللازمَيْن لمواجهة خطر الحضارة الغربية، حتى مسألة تطبيق الشريعة عند (الإسلامي)، رغم أنها اعتمدت في منطقيتها على أفضلية شرع الله على شرع البشر، إلا أنها اتكأت، في أحد المستويات النفسية، على أن «شريعة حضارتنا أفضل من قانون الفرنسيين».

ليس علينا أن نكرر هنا أن الوعي بالمسألة الغربية عند كل الإسلاميين ليس شرطا لتأكيد كلامنا، فكل التفاعلات الواردة في تلك الدراسة، وكما أكدنا مرارا، هي تفاعلات لا شعورية هي أقرب إلى الشعور الضمني الغامض منها إلا الموقف الصريح، فصائل إسلامية كاملة أسقطت مفردات الصراع الحضاري مع الغرب من قاموسها، ومع ذلك فهي نشأت كنوع من الممارسة العدوانية الضمنية للغرب .

الموقف من المجتمع إذا هو ما يميز (الإسلامي) عن (المتدين)، فالأول منهما يضع المجتمع المحيط به بين قوسين، إنه غير راض عنه لأن موقفه من الهيمنة الغربية سلبي وغير ملائم من وجهة نظره (أو بحسب شعوره الغامض غير الواعي)، إنه مجتمع دنيء رضي بأن يتعايش مع وضعه كمقهور مستباح، فهو إذا غير جدير بالاحترام ولا يصلح أن يكون مرجعا حياتيا، ويسهل عليه جدا أن يُضمِّن برنامج حياته بعادات قد يستغربها المجتمع، إذ ما عاد يأبه لاستغرابه بعد .

أما (المتدين) فصحيح أنه لا يرضى عن الانحرافات الدينية للمجتمع بكل صورها، إلا أنه لا يتحفظ على المجتمع ككل، ولا ينكر انحرافاته إلا بوصفها أمرا مألوفا، هي وإنكاره لها على حد سواء، وكأنه يحدث نفسه: «هكذا تسير الأمور.. وهكذا (يجب) أن تسير.. مجتمع منحرف وبعض أفراده ساخطين من تلك الانحرافات، وأنا منهم»، إن رضاه عن انحراف مجتمعه كامن في طيات سخطه المزيف، وهي تلك المسرحية التي قرر (الإسلامي) عدم الانخراط فيها، واستبدلها بتهديد حقيقي لثوابت المجتمع لصالح مثل أعلى مفارق له وللمجتمع .

تحفز المجتمع إذا ضد الإسلاميين مفهوم من خلال هذا الموقف الإسلامي مفهوم بكل مظاهره، فتراهم مرتابين في كل ما يفعل، متشككين في كل ما يقول، متربصين بكل يا ينوي، ولعلك تندهش حين تراهم مشمئزين جدا تجاه أي سلوك مشين قد يختلط بالظاهرة الإسلامية، وحاسمين جدا في ردهم لكل مظاهر الدين في تلك الظاهرة لأجل ما اختلط بها، لكنهم فيما بينهم، تراهم يقنعون حتى بحجّة راقصة أو صدقة عربيد دليلا على التقوى الكامنة وصفاء السريرة، إنه في الحقيقة عداؤهم للظاهرة الإسلامية وليس للسلوك المشين .

(الإسلامي) إذا هو إنسان متميز، ومتفوق، وأفضل من الإنسان (المتدين) من الناحية الإنسانية، حتى لو حدث أن كان هذا (المتدين) هو أكثر منه تدينا. الإنسان (المتدين) يبقى أسير المجتمع حتى في تدينه، لا يستطيع أن يُحلّق خارجا عنه، بل يعمل دائما على تهذيب تدينه وتطبيعه وتطويعه للمجتمع بكل آفاته، وأهمها الآفة الأكثر عراقة فيه، وهي السلبية السياسية التي لا يتسامح أبدا في تجاوزها إلا بشكل صوري طبعا .

(المتدين) إذا بمنأى عن عقاب المجتمع للـ (إسلامي) بسبب موقفه المتحدي له، (المتدين) لا يعيش أزمة الاغتراب التي يعيشها (الإسلامي)، فلا نتعجب حين يكون أكثر اتزانا في بعض الأحيان من الناحية النفسية من الإنسان (الإسلامي)، غير أن ذلك لا يعني بحال أنه أفضل منه، بل يعني أنه جبان قد نأى بنفسه عن المواجهة مع المجتمع أصلا، تلك المواجهة التي تركت كثير من الجروح النفسية لدى (الإسلامي) .

صحيح أن التشارك في التدين قد جعل (المتدين) هو أقرب إلى (الإسلامي) من غيره، غير أننا ونحن بصدد رصد الظواهر وردها إلى طبائع الأشياء لابد من إخراج ذلك الجبان من حيز دراستنا .

الأزهر والصوفية خارج موضوع الدراسة.

إننا أيضا كما استبعدنا (المتدين) من مجال الدراسة، فإننا نستبعد مؤسسة الأزهر ورجاله، فليس هناك أي مشكلة بين الأزهر وبين المجتمع إذ تأصلت واستقرت العلاقة بينهما بامتداد عمر الأزهر نفسه، فرغم أن المجتمع يسخر من رجل الأزهر دائما ويرسم له صورة الديكور الديني المنافق للسلطة والنهم الذي لا يشبع من (اللحوم وحواشيها) والدرويش المعزول عن مفردات عصره، إلا أنه مع ذلك يبقى مرجعا دينيا لا سبيل إلى إنكاره أو استبعاده، خاصة إذا ظهر (الإسلامي) في الصورة .

والأزهر في ذلك شأنه شأن الفرق الصوفية التي تعتبر مرجعية المجتمع فيما يتعلق بالأمور الروحانية والغيبية، ومهما أظهر المجتمع من تحفظ على (خرافات) المتصوفة، إلا أن الصوفي والمجتمع قد قبل كل منهما على علاته، وأيا منهما لا يشكل تهديدا للآخر .

ما هو غير جوهري عند الإسلاميين

لقد استبعدنا الظواهر الشبيهة بالظاهرة الإسلامية كي نحررها من غيرها ونميزها كحركة رفض للمجتمع، بقي أن نستبعد بعض العناصر الداخلية في الظاهرة الإسلامية والتي قد تعكر صورتها كوحدة اجتماعية

قد يتبادر إلى الذهن أن (المعتقد) هو ما يميز الإسلامي عن غيره، أليس الإسلاميون هم حملة لواء أهل السنة والجماعة في زماننا الحاضر في الوقت الذي انتشر فيه الجهل والخرافات عند غيرهم؟ الحقيقة أنه من الخطأ أن نتساهل مع تلك الفكرة رغم ما لها من غواية وبريق، ومن المؤكد أننا نلاحظ أن بعض (الإسلاميين) هم أكثر انحرافا عن معتقد أهل السنة من بعض من هم خارج النمط الإسلامي، وأن مفهوم (معتقد أهل السنة) نفسه هو نسبي يدعيه شركاء متشاكسون في مسمى (الإسلاميين) وإلا فهل تظن أن المسافة يمكن تجاهلها بين التكفيري الذي يكفر كل من يستخرج بطاقة هوية، وبين الإرجائي الذي يتحرج في تكفير الساخرين صراحة من تشريعات الإسلام وحضارته؟ أم هل تظن أن الجهادي الذي لا يعرف سوى العمل المسلح هو قريب من السلفي الذي يحرِّم حتى المظاهرات، بل يحرم نقد الحاكم على الملأ، بل يرى وجوب أن يعمل لديه مرشدا على من يعتبرهم خوارج؟ ومع ذلك فالجميع (إسلاميون)، وكل فرد منهم يرى في كل فرد من الفريق الآخر وجه شبه وقربى، يرى فيه شيئا يشترك به معه دون (العوام) الذي لا يحملون هم (تغيير المجتمع) .

(المظهر) أيضا لا يميز بين الإسلامي وغيره، فالتبليغي والسلفي المفرطان في مظهرهما غير الاجتماعي يشعران أن الإخواني المفرط في محاكاته للمجتمع يهدف إلى ما يهدفان إليه من (تغيير المجتمع) غير أنه قد سلك طريقا آخر يعتمد على خداع ذلك المجتمع ومجاراته، ودعك من أي نقد قد يوجهه أيا منهما للآخر بخصوص الملبس، إنما نحن نبحث عن (النقطة العميقة) التي تجمع بينهما قبل أن يسلك كل منهما سبيلا خاصا .

إذا فـ  تغيير المجتمع هو (المؤامرة النبيلة) التي تجمع بين كل الإسلاميين، وشعور المجتمع بالتهديد تجاههم يستغرق كل فصائلهم على اختلافها، و(تغريب) المجتمع كسلوك دفاعي هو مصدر المعاناة لدى كافتهم .

وسنرى فيما بعد بالتفصيل، كيف أن جميع التباينات الداخلية بين الإسلاميين لا تنفي القول بوحدة الظاهرة، بل هي شاهد إثبات على تلك الوحدة، وذلك حين نرد كل تلك الاختلافات المظهرية إلى أن تكون آليات دفاع مختلفة ضد أزمة نفسية واحدة هي أزمة الاغتراب عن المجتمع.

تم الجزء السابع ويليه الجزء الثامن إن شاء الله





يحيى رفاعي سرور - مصر        الإثنين 24 ديسمبر 2012 23:29:16 بتوقيت مكة

   رد على أسئلة

• القول بأن الإسلامي لا يقدر على الاندماج في المجتمع هو غير دقيق، هو لا يرغب أساسا في الاندماج وهو من اتخذ قرار الانسحاب، عدم الاتزان النفسي هو ظاهرة محدودة جدا لكن لها دلالة لا يجب التغافل عنها، الانسحاب من المجتمع هو أحد أسبابها لأن علاقة الفرد بالمجتمع هي أهم أركان الصحة النفسية، وليست هذه طبيعة جوهرية للحركة الإسلامية ولكنها أحد أعراض الاغتراب وهو بدوره عرض مؤقت. أما الحلول ففيما يأتي من حديث سنتطرق له.

• العناصر الداخلية التي تعكر صفو الوحدة الداخلية للحركة الإسلامية هي تعدد المناهج والأمزجة.

• الأنماط النفسية المهيَّئة للاندماج في الحركة الإسلامية هي الأنماط التي يبلغ عدم رضاها عن المجتمع نوعا من الشمول والجدية، سواء كانت أسباب ذلك السخط موضوعية أو نفسية داخلية.

• قيام الدولة دولة الإسلام مع بعض الانحرافات سيكون عاملا حافزا في اتجاه زوال الشعور بالاغتراب لدى الحركة الإسلامية، لكنه لن يكون العامل الحاسم، فالمناط الأكثر أهمية هو المجتمع وليس الدولة، مع العلم بأنه لا تلازم بين الحركة



مسلم - مصر     الأحد 23 ديسمبر 2012 9:56:12 بتوقيت مكة

   أسئلة

أسئلة أتمنى أن تهتم بالرد عليها ولو في الحلقة القادمة

- ما معنى أن المتدين هو أكثر اتزاناً نفسياً من الإسلامي ؟ هل المقصود بذلك الاتزان الاجتماعي والقدرة على الاندماج مثلاً ؟

وهل هذه مشكلة تحتاج إلى دراسة وحلول أم أنها طبيعة الحركة الإسلامية وجوهرها ؟

-  ذكرت أن المتدين والصوفي والأزهري خارج نطاق الدراسة لأنها ظواهر شبيهة بالظاهرة الإسلامية ، فما هي العناصر الداخلية في الظاهرة الاسلامية والتي قد تعكر صورتها خاصة وقد ذكرت في آخر المقال أن جميع التباينات الداخلية بين الإسلاميين لا تنفي القول بوحدة الظاهرة بل هي شاهد إثبات على تلك الوحدة ؟

- ما هو أثر النمط الشخصي للفرد في التأثير على خياراته إذا ما قرر الاندماج في الحركة الإسلامية ؟

- إذا حدث وقامت الدولة على أسس الشريعة أو قامت خلافة إسلامية ، هل نتوقع استمرار انزواء بعض التيارات كحركة رافضة للمجتمع عند حدوث أي شبهة قد تشوب آلية تطبيق الشريعة ؟




الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (8)

يحيى رفاعي سرور غفر الله لنا وله ولوالده الشيخ رفاعى سرور رحمه الله رحمة واسعة

الثلاثاء 25 ديسمبر 2012



تحليل محتوى الدعاية المضادة للحركة الإسلامية

المجتمع يستبق الضربة

الإسلاميون، بحسب مجتمعهم، قد ارتقوا مُرتقا صعبا حين تجرأوا على الخروج على خياراته وتهديد ثوابته والاستهانة بوجوده، أي حين رفضوا (رفضا حقيقيا) ما رفضه هو رفضا صوريا هزليا، من هيمنة غربية واستبداد سياسي تابع لها مدعوم منها، أي رفضوا العار الذي تكيف وتعايش هو معه، فطبيعي ينال ذلك من احترامهم له، بل وأن يمثل أمامهم كعقبة يجب أن تزول، وكبناء يجب أن يهدم، وطبيعي أيضا، على الطرف الآخر، وبغريزة البقاء لدى المجتمع، أن تكون مهمة تحطيم الحركة الإسلامية هي أولى أولوياته وأكثرها إلحاحا .

ولقد أثبتت الأيام أن المجتمع كان أكثر ثقة بنفسه، وأكثر قدرة على تحقيق هدفه، وأن الإسلاميين فعلا قد خاطروا بوجودهم حين انشقوا بخياراتهم عن مجتمعهم، لكن لم يكن أمامهم سوى ذلك، فانشقاقهم ليس خيارا، بل هو وجودهم ذاته. المهم أن المجتمع قد نجح في تحويلهم في النهاية إلى مسخ عديم الخطر ولا معنى له وحجمه أضخم من فعالياته. وانعكس هذا على مرحلة ما بعد الثورة، إذ لا يستطيع أحد إنكار أن التقدم السياسي لدى الإسلاميين لا يوازي أو يناسب إمكاناتهم العددية وجاذبيتهم الجماهيرية. وليست هذه الحالة الحزينة التي آل إليها الإسلاميون سوى حالة ترنح طويلة الأمد حصلت بفعل ضربات متتالية ومستمرة من خصمهم الأقرب والذي هو المجتمع المحيط بهم .

وإعادة المشهد ببطء هو أمر لازم الآن، أقصد مشهد (الضربات) هذا، بقصد تحليل ما حدث وتفكيك عناصره وتحويله إلى خبرة أعتقد أنها ضرورية جدا إن كنا لا زلنا نأمل في استمرار ما يسمى بالحركة الإسلامية. أين هي مكمن قوة المجتمع؟ وكيف كنا غير محصنين ضد ضرباته؟ وما هي تحديدا أعراض الإصابة ؟

المجتمع يملك ورقة رابحة دائما ضد كل إرادة تعلن استقلالها عنه وتأبيها على الخضوع له والرضوخ لمزاجه، فهو، بطبيعته، من بيده صياغة وعي أفراده وتشكيل صورتهم أمام أنفسهم، هذه هي العلاقة بين الفرد والمجتمع بشكل عام، حتى المزاج الجنسي نفسه يحدده المجتمع لأفراده بناء على احتياجاته، وهي ملاحظة رائعة ضمّنها د. محمد جلال كشك في كتابه: «خواطر مسلم في المسألة الجنسية»، الفرد بالنسبة للمجتمع شأنه شأن الطفل بالنسبة للأسرة، فهي من تمنحه صورة ذاته، وتلقنه بما هو عليه .

من الميسور لنا الآن استنتاج أن رد فعل المجتمع تجاه إرادة الحركة الإسلامية هو تفتيت وتشتيت تلك الإرادة بحيث تضمنت في النهاية صورة عن ذاتها أنها  كيان: «« مذنب.. وقبيح.. وضار.. ومكروه.. وحقير.. وغير مرغوب فيه». وباختصار: تغريب الحركة الإسلامية، أي زرع الشعور بالاغتراب داخلها بحيث تنحرف أعراض ذلك الاغتراب بالحركة الإسلامية عن أهدافها غير المسالمة للمجتمع .

إننا نتحدث إذا عن الدعاية المضادة للحركة الإسلامية على مدار عقود هي عمر الحركة نفسها، وأرجو أن لا نذهب بتفكيرنا إلى السلطة وإعلامها حين نتحدث عن تلك الدعاية، قد يبدو إعلام السلطة بنظرة سطحية هو الفاعل والصانع للرأي العام خاصة في المجتمعات الاستبدادية، غير أننا على المستوى التحليلي لا نعتبر ذلك الإعلام سوى أداة ووسيلة من وسائل المجتمع، إذ لا يمكن أن يحتوي إلا على رسائل هي على قدر من الموائمة والانسجام مع مخيلة الجمهور نفسه، حيث لا تقوم إلا بصياغة نوازعه وتجسيد خيالاته الكامنة فيه، إننا إذا نتحدث عن (المجتمع) كمجرم أصيل في حق الحركة الإسلامية، نتحدث عن كل حركة وكلمة وإشارة صدرت من أي فرد من أفراد ذلك المجتمع ضد أي فرد ينتمي بأي شكل من الأشكال إلى التيار الإسلامي، كل حركة أو كلمة أو إشارة مشحونة بشحنة نفسية سلبية ومعبأة بالشعور بالترصد أو التربص أو التحفز أو الاستغراب أو الاستنكار أو السخرية أو الرفض.

وتحليل محتوى الدعاية المضادة للحركة الإسلامية هو: تحديد السمات السلبية التي استُهدف الإسلاميون كي يروها في أنفسهم ويقيموا ذاتهم من خلالها. أما ضرورة تحليل تلك الدعاية فهي مزدوجة :

أولا : التحفيز لتطوير دعاية إسلامية دفاعية مضادة ومنظمة وعلمية تعتمد على فهم الآخر بدلا من الاكتفاء بنقده من الناحية الشرعية أو الأخلاقية. رغم أنه لا أمل في القريب العاجل من بلورة تلك الدعاية الإسلامية، إذ لا يعقل أن يقوم بذلك العمل كيانات وشخصيات لا زالت هي نفسها واقعة تحت تأثير الدعاية التي يحاولون نقضها .

ثانيا : التأكيد على ما سبق وافترضناه كتأسيس، من طبائع تحكم كلا من الظاهرة الإسلامية والظاهرة العلمانية والمجتمع الذي يضمهما، ومن تفاعلات لا شعورية بين تلك الظواهر هي نتيجة لتلك الطبائع الجوهرية فيها. إذ أن محتوى الدعاية نفسه له علاقة دلالية وثيقة بما ذكرنا .

لقد رمى فرعون وملأه موسى وهارون بتهمة (الاستكبار) رغم أن الاستكبار هو أصلا مضمون الفرعونية، قال تعالى: «قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين»(يونس 78). وهذه إشارة قرآنية إلى سيادة آلية (الإسقاط) على مضمون الدعاية الموجهة من أهل الباطل ضد أهل الحق .

لقد تحدثنا عن أن رفض المجتمع للظاهرة الإسلامية كان لتشبعه بنمطين كل منهما مضاد للنمط الذي تمثله تلك الظاهرة، وهما نمط (تقديس الحاكم)، ونمط (الإعجاب بالغرب)، وذكرنا أن كلا منهما معادٍ للظاهرة الإسلامية من حيثية مختلفة، فنمط تقديس الحاكم معادٍ لها من حيث طبيعة التراث الذي استندت إليه في وجودها، وهو التراث الإسلامي المضاد لفكرة (الحاكم الإله)، أما نمط (الإعجاب بالغرب) فمعادٍ لها من حيث هي تمثل استجابة للهيمنة الغربية هي على النقيض من الاستجابة التي يمثلها، أعني التناقض بين استجابتي الهروب والمواجهة .

لقد كان لهذه الازدواجية في الرفض للإسلاميين انعكاسه على ازدواجية الدعاية المضادة له، فبإمكاننا تمييز محتوى تلك الدعاية إلى حزمتين من السمات السلبية كل منهما مرتبطة في محتواها بالنمط المُصدّر والراعي لها، ثم رصد مجموعة من السمات المرتبطة مباشرة بفكرة المجتمع ذاتها .

أولا : سمات سلبية مرتبطة بنمط (تقديس الحاكم)، وتتعلق كلها بفكرة السلطة وبحرمة الحاكم وبجريمة تهديد الاستقرار، فالإسلامي بحسب هذا النمط هو شخص: « طامع في السلطة.. عميل للقوى الأجنبية.. غامض يعيش حياة سرية.. ماكر.. يخفي بوجهه البشوش قسوة لا حد لها.. وهو انتهازي يضحي بكل شيء في سبيل تحقيق أهدافه.. لا يبالي بدماء الأبرياء.. ولاؤه فقط لجماعته ومن هم على شاكلته.. يخطط بدهاء ويحقق أهدافه ببطء شديد.. يجيد استخدام الورقة الدينية بمهارة مع البسطاء مع الناس..  انتهازي يتخلى عن معتقداته نفسها طالما كان في ذلك تحقيق لمصالحه.. يلقي باللوم على النظام لأتفه الأسباب ويثير عليه الناس في كل مناسبة » .

ثانيا : سمات سلبية مرتبطة بنمط (الإعجاب بالغرب)، وكلها مرتبطة بنفس الوشائج التي ربطت أفراد ذلك النمط بالغرب، فالإسلامي بحسب ذلك النمط هو شخص متخلف.. يعيش الماضي بكل مفرداته، فالأعشاب هي موضع ثقته بدلا من العقاقير الصيدلية، الإسلامي هو إنسان همجي، غير منظم، لا يعرف قيمة الوقت، هو متواكل على الأقدار، عقليته غيبية خرافية، عاجز بطبيعة تكوينه عن التفكير العلمي والمنطقي، ثم هو عاطل عن العمل وغير منتج، وهو مع ذلك مهووس جنسيا (لاحظ أن الهوس الجنسي سمة غربية).. الإسلامي هو أيضا مرائي يخفي بمظاهر تدينه كل رذيلة (الرياء الديني هو أولى مآخذ الغربيين على رجال الدين والمسيحية بيئة خصبة للرياء بطبيعتها المفرطة في المثالية) .. وكل حديث الإسلامي عن الغرب إنما هو حقد منه عليهم .

ثالثا : سمات مرتبطة بفكرة المجتمع ذاتها، وتعتبر محصلة ومآل للدعاية المرتبطة بالنمطين السابقين، وبحسب ذلك الجانب، فالإسلامي غريب الأطوار.. معقد.. حاقد.. صلف.. نرجسي.. عدواني.. يحسد المجتمع على كل ما يتمتع به من دفئ وأنس.. سيء الظن أخلاقيا بكل من حوله لأدنى سبب.. مستخف بمشاعر الآخرين.. شخصية ناقصة حساسة تجاه نظرة الآخرين لها.. حالة مرضية لا تعي نفسها.. منافق لا يتورع عن إتيان كل ما هو غير أخلاقي طالما زالت العوائق وأمن العواقب.. انطوائي لا ينبسط إلا مع أمثاله.. لا يميز بين أهل ملته وبين غيرهم وكأنه يعتنق دين مستقل عن الجميع.. يعيش في عالم مغلق ولا يسيطر عليه سوى جماعته.. ينتابه الحنين بين الحين والآخر إلى المجتمع والانخراط فيه لكنه يقاوم ذلك. تافه يعوض حقارته باستغلال مقام الدين عند الناس .

الملاحظ أن الفئات الثلاثة السابقة رغم تمايز مصادرها إلا أنها في الواقع متداخلة ومتلازمة مع بعضها البعض عند نفس الأفراد، حيث يحدث ما يشبه (الاستعارة) بين الأنماط في نظرة كل منهم للظاهرة الإسلامية، فالعلماني المنبهر بالغرب قد يكون معارضا سياسيا معادٍ للنظام، لكنه مع ذلك يأخذ على الإسلامي عدائه للسلطة، أما رعاع القوم والذين يغلب عليهم نمط (تقديس الحاكم) فستجدهم أحيانا يأخذون على الإسلاميين أنهم (لا يعيشون عصرهم) !

لقد قمنا برد مفردات الدعاية المضادة للحركة الإسلامية إلى مكامن وأسباب رفض المجتمع لتلك الحركة، بقي أن نعالج نقوم بتحليل آثار تلك الدعاية المضادة بنفس الطريقة، أي أن نرد جميع أعراض الخلل في الحركة الإسلامية إلى حالة (الاغتراب) التي نشأت من تلك الدعاية، وهي طريقة جديدة لا بد منها لتفسير سلوكنا نحن الإسلاميين ثم تقويم ذلك السلوك .

انتهت الحلقة الثامنة ويليها الحلقة التاسعة إن شاء الله تعالى


الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (9)

يحيى رفاعي سرور غفر الله لنا وله ولوالده الشيخ رفاعى سرور رحمه الله رحمة واسعة

(الشخصية الإخوانية)

الخميس 27 ديسمبر 2012

كل فوضى سلوكية هي خاضعة في النهاية لنظام وكل سلوك عبثي يمكن في النهاية تفسيره ولن نمحو ( اللا معنى ) من حياتنا نحن الإسلاميين باعتلاء كل منا لمنصة قضاء وتسويد قائمة بما استطاع رؤيته من أخطاء هذا أمر قد اكتفينا منه وتخمنا به وانظر حولك فستجد نفسك أنت ومنصة قضائك مدان في نظر إسلاميين آخرين لا يفتقرون إلى منصة قضاء أيضا فدعك من (النقد) وهلم نجرب (الفهم) هذا إن كنت طموحا لا يشغلك الحكم على الأشياء من بعيد  بل تروم السيطرة عليها.

هل تحاذر دائما من (الغفلة) وتخشى من أن تكون من (الغافلين)؟ أراك تظن أن غفلة الإنسان هي فقط غفلته عن مصيره أخبث الغفلة هي غفلة الإنسان عن وجوده عما هو عليه الآن عن هوى بين جنبيه لا يعلمه أو بغيا في دواخل نفسه قد ذهل عنه .

لا تحاول أن تتنصل من غيرك أن تتشرنق داخل فصيلك الذي تنتمي إيه وتصب لعناتك على من هو خارج شرنقتك تلك  اختلافنا عن بعضنا البعض مصدره (الهوى) خيط  رفيع يضم اعوجاجات متفرقة أنت وشرنقتك جزء منها .

كل فرد من الإسلاميين هو مسئول عن خطايا كل الإسلاميين حتى لو لم يقترف إلا بعضها وكل فرد من الإسلاميين هو عليل بأمراض الحركة الإسلامية كلها ولو لم يتوعك إلا ببعضها . فإن لم تكن رجلا فيما مضى فلا أظنك تعمى عن حاجتنا إليك كي تكون رجلا في هذه المرحلة أي أن تكون مسئولا عن الجميع .

تذكر هذه القاعدة جيدا لتفهم ما يجري: «التيارات الإسلامية هي أنماط نفسية مشوهة انحرفت بأفرادها عن غاية هجومية هي تغيير المجتمع وقصدت بهم إلى حالة دفاعية هي التكيف مع أزمة الاغتراب عنه وهو المصير الذي نجح المجتمع عن قصد في أن يصيّر الحركة الإسلامية إليه بعد تهديدها له » .

ويمكن رصد خمسة أنماط تحكم سلوك الحركة الإسلامية لا يمكن فهم أي منها إلا من خلال وظيفتها في حل أزمة الاغتراب عن المجتمع .

أولا  : نمط محاكاة المجتمع .

ثانيا  : نمط الانسحاب من المجتمع .

ثالثا  : نمط عسكرة العلاقة مع المجتمع .

رابعا : نمط إلغاء قيمة المجتمع .

خامسا: نمط الاختفاء من المجتمع .

وما نقصده بكلمة نمط يختلف عما تعنيه كلمة تيار أو فصيل أو حركة النمط هو بناء نفسي وليس هيكلا تنظيميا أو اجتماعيا واضحا إنه إرادة أو نزعة نفسية ضمنية تسيطر على تيار أو حركة ولكنها قد تسيطر على غيرها وكل نمط هو إرادة  تميزت عن نظيرتها باختيارها شكلا من أشكال التكيف مع أزمة الاغتراب وليس تناولنا لحركات بعينها سوى وسيلة للخلوص إلى النمط المسيطر عليها أي النزعة النفسية الحاكمة لها والتي تتدخل في صياغتها لما تعتبره منهجها في التغيير  لا أكثر .

الإخوان المسلمون: نمط (محاكاة المجتمع)

لم يُقدّر لعبارة من عبارات الأستاذ  « حسن البنا » أن تكون ذات فاعلية وأثر في الأخوان أكثر من هذه العبارة: « لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد » .

فمنذ ذلك الحين وفن التعايش عند الإخوان هو الفن الرائج ومهارة تجنب الصراع عندهم هي معيار الكفاءة والمرونة عندهم هي النوع المفضل من التضحية  والإصلاح الناعم عندهم هو طريقة التغيير والشخصية الإخوانية الواعدة هي التي تجيد الردود الدبلوماسية . أما كل سيئات الإخوان وخطاياهم فليست سوى ما سبق من سمات ولكن من منظور آخر فكلها تدور أيضا حول فكرة عدم الصراع ولكن من منظور سلبي فهي بحسب خصومهم : مداهنة وتنازل عن الثوابت وانتهازية ونفاق وجبن ولجوء لأنصاف الحلول .. إلخ . وهذه هي صورة الواقع الذي جسدته مقولة «حسن البنا» سواء كما يراها الإخوان أم خصومهم.

لسنا هنا مضطرين لاستعراض قائمة بتنازلات الإخوان يمكنك الرجوع لأي مصدر بهذا الشأن وأولها كتاب «الحصاد المر للإخوان المسلمين» للدكتور «أيمن الظواهري» ولسنا هنا أيضا بصدد الدفاع أو الهجوم ولا يعنينا هنا الترجيح (بين الحنكة والحصافة) وبين ( اللا أخلاقية واللا مبدأ) وأي من النظرتين هي الأدق في وصف الإخوان لكننا معنيون بـ (إعادة توصيف الحالة) في ضوء ما توفر لنا من حقائق سابقة حول التفاعلات الخفية والعميقة بين الإسلاميين وبين المجتمع .

محاكاة المجتمع كحل لأزمة الاغتراب عنه

بمقدورنا الحصول على منظور أشمل للإخوان إذا عقدنا صلة بين ما استنتجناه من تغريب اجتماعي للإخوان بالنظر إليهم كنوع من الإسلاميين وبين المداهنة الإخوانية للمجتمع كنوع من التكيف مع أزمة الاغتراب. الاغتراب حقيقة نفسية تستند إلى واقع موضوعي هو (الاختلاف) والمحاكاة هي نفي للاختلاف كوسيلة لإنكار الاغتراب .

ينبغي هنا التأكيد على ما سبق وذكرناه من ضرورة التمييز بين مستويين من التفاعل بين المجتمع وبين الإسلاميين مستوى مضمر يتضمن شعور بالتهديد تجاه كل منهما للأخر ويعود إلى الوجهة الطبيعية المضادة للمجتمع ويترتب عليه (حالة نفسية) عند الإسلاميين ومستوى صريع يعود إلى ما يراه كلا منهما من الآخر من عداء سافر سواء كان العداء مختلقا أم مضخما أو حقيقيا ولنعلم أن المستوى المضمر في التفاعل بينهما هو سيد الموقف في النهاية. ووظيفة ذلك التمييز في الحالة الإخوانية هو الكشف عن حقيقة مؤلمة للغاية: هو أن تنازل الإخوان كان وسيكون دائما غير ضروري ومبالغا فيه من ناحية الموضوعية وسيستمر حتى لو وصل الإخوان للحكم لأنه يعود لا إلى حسابات منطقية بل إلى (حالة نفسية) تحكمت في الشخصية الإخوانية ويصعب اقتلاعها .

إننا نقف موقفا وسطا بين الثقة بالإخوان وبين احتقارهم إننا ببساطة : مشفقون عليهم فليسوا هم بأهل ثقة لأن مراوغتهم ومرونتهم ومداراتهم وحصافتهم الاجتماعية ليست  (خيارا سياسيا واعيا) بل هو في حقيقته (حالة نفسية غير واعية) .

إننا مع ذلك لا نحتقرهم شأنهم في ذلك شأن أهل النفاق والانتهازيين والنفعيين فأغراضهم ليست شخصية ومراميهم نبيلة وليس ذلك النفاق والتنازل سوى اضطرارا يعالجون به شعورا جارفا بأنهم موضع عداء المجتمع وكراهيته .

لذلك قلت أننا نقف موقفا وسطا بين الثقة بهم وبين احتقارهم وأن الشفقة عليهم يجب أن تجد إلى نفوسنا سبيلا. ويمكن التعبير عن موقف الإخوان المضمر من المجتمع في هذه العبارة : ( لم كل ذلك الارتياب منا إننا لا نريد لكم إلا الخير إننا لسنا غرباء عنكم إننا نشبهكم تماما كل ما تجدونه ثابتا من ثوابتكم هو مُبرَّر مباح في عقيدتنا حتى معارضتنا للنظام لن تتجاوز حد معارضتكم له ولن يرتفع سقف سخطنا عليه فوق سخطكم أنتم عليه ومحاولاتنا الإصلاحية لن تعتمد إلا ما ترضونه من وسائل نرجوكم أن تترفقوا بنا ولن تجدوا منا ما يزعجكم بل سنكون لكم خيرا مما تظنون ) .

«حسن البنا» يتحدث في عبارته الشهيرة عن (النواميس الكونية) التي لا ينبغي الصدام معها إنه في الحقيقة يتحدث عن المجتمع لا النواميس وليس حديثه عن النواميس سوى شعور بالرهبة من المجتمع وخوف من غضبته ويقين بقدرته على سحق ما يهدده وهو الشعور المسيطر على الإخوان إلى الآن والذي سيظل مسيطرا عليهم في المستقبل .

لقد استنتجنا من خلال الوضع النفسي غير السوي للإخوان أن التشاؤم فيما يتعلق بمستقبل حالة (التنازل الإخواني للمجتمع) له ما يبرره وأن الأمر سيطول هكذا إلى أمد غير قريب وليس بيدي هنا أيضا أن أستنتج فاجعة أخرى ليست بأقل من الأولى وطأة هو أنه طالما أن أخطاء الإخوان ليست في النهاية سوى (آلية دفاع ضد الاغتراب الاجتماعي) وطالما أن أزمة الاغتراب مستغرقة لكافة الإسلاميين فمن المؤكد أن سلوكيات التيارات الأخرى ليست هي بدورها سوى طرائق مختلفة لحل نفس الأزمة أي أزمة الاغتراب وأن ما يميز كل فصيل عن الآخر هو شكل الدفاع الذي ارتضاه للدفاع عن نفسه. وأن علينا إذا أن نفحص سائر التيارات انطلاقا من هذا الاستنتاج وأن نجيب على هذا السؤال: إلى أي مدى يمكن اعتبار الدعوة السلفية والتبليغ والدعوة والقطبيين والتكفير والهجرة وحركات الجهاد ليست طرائق في الهجوم بقصد تغيير المجتمع بقدر ما هي طرائق في الدفاع عن الذات الإسلامية ضد أزمة الاغتراب ؟

انتهت الحلقة التاسعة ويليها الحلقة العاشرة إن شاء الله تعالى




الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (10)

يحيى رفاعي سرور غفر الله لنا وله ولوالده الشيخ رفاعى سرور رحمه الله رحمة واسعة

الإثنين 31 ديسمبر 2012

البناء النفسي للشخصية السلفية (الجزء الأول)

كثيرا ما راودني ذلك السؤال المحيِّر: أيهما أكثر مكرا (وبالتالي: قبحا)، الإخوان أم السلفيون؟ لم أستطع أن أحسم تلك المسألة بعد، لكني على الأقل أميل إلى أن السلفيين أكثر خطرا، فهم حريصون على أن تبدو حٍيلهم كفضائل، وأن يبدو جمودهم كتقيد بما كان عليه السلف، وأن يعوضوا عقمهم بمظاهر المهابة التي برعوا فيها. لكن، ألم يعرِّف النبي، صلى الله عليه وسلم، الخوارج بعلامة مبالغتهم في شأن الصلاة .

والحكمة المستخلصة هي أنه لن يثنينا وجوب ما هو واجب (في ذاته) أو ضرورة ما هو ضروري (في ذاته)، لن يثنينا أيا منهما عما عزمنا عليه من اقتحام «المنتج الخيالي» الذي صنعه السلفيون، ولن يمنعنا أيا منهما النظر إلى السلفيين بارتياب ورثاء، إذ ليس أيا منهما (الواجب والضروري) بمحصن من أن يستخدم كـ (مسرح للجريمة). طبعا سيتجاهل هذا التنبيه كل (المجرمين) وسيصرخون: «إنه رجل يرفض ما هو (واجب)، ويتجاهل ما هو (ضروري)، ويدين ما هو (مباح)»،  فعلى (الأبرياء) إذا أن يتفطنوا إلى مغزى الصُّراخ، وأن يميزوا بين ما هو الشيء في ذاته، وبين كونه منفذا لمقاصد خبيثة .

الجميع متفق على أن البون شاسع بين السلفيين والإخوان، الاختلاف فقط في صيغة المقارنة بينهما، فإن كنت في الأرض الإخوانية فستكون الصياغة كالتالي: «شتان بين تشدد وتنطع وتحجر السلفيين وبين مرونة وكياسة ومعاصرة الإخوان»، أما لو وقفت في الأرض السلفية فستكون المقارنة التالي: «شتان بين اتباع الدليل، والصلابة في الحق، والسلفية في المنهج عند السلفيين وبين التسيب والجهل الشرعي والحربائية الإخوانية»، تناول الأمر من أي زاوية شئت، المهم أن التباين بينهما ملحوظ، حسنا .

لكن اسمحوا لي أن أوضح أمرا آخر، هو أن المسافة بينهما هي أقل مما تبدو عليه، لا أقصد أن مقاصدهم النبيلة واحدة، وأن كلاهما يسعى للتمكين لدين الله في الأرض، و.. ألخ. ولكن أقصد أن إرادة الاحتيال على الذات عندهم واحدة، إرادة الهروب السحري من أزمة الاغتراب عن المجتمع، وما تميز كل منهما عن الآخر إلا في وسيلة الهروب .

التحليل التراجعي للشخصية السلفية يعيدنا إلى النقطة التي كانوا يقفون عندها مع الإخوان قبل أن يفترق كل منهما عن الآخر، أي عند لحظة الشعور بأزمة الاغتراب، لقد انتهينا إلى أن الآلية التي اعتمدها الإخوان ضد قلق الشعور بالاغتراب هي: محاكاة المجتمع بغرض نفي الاختلاف وإزالته كأساس موضوعي للشعور بالاغتراب. السلفيون سلكوا طريقا معاكسا وأكثر خيالية، ولكنه يحقق يقوم بنفس الغرض ويحقق نفس الوظيفة، السلفيون قرروا الإغراق والمبالغة في الاختلاف عن المجتمع بغرض حمله على أن يتراجع عن مقارنتهم به، وبذلك تنقطع علاقة كل من الشخصية السلفية بالمجتمع من الطرفين، حيث يراهم المجتمع كـ (أناس آخرين) وهم يرون المجتمع كـ (بيئة مضيفة مؤقتة). وبذلك تنتفي إرادة التغريب، ويختفي الشعور بالاغتراب .

لكن، كيف يكون (الاستغراق في الاختلاف) حلا لمشكلة الاغتراب رغم أن الاختلاف هو الأساس الموضوعي للشعور بالاغتراب؟ هذا ما أود شرحه هنا: الشعور بالاغتراب هو انفعال وتأثر بنظرة المجتمع، والتي محتواها هو (اختلاف جزء من المجتمع عن سائر المجتمع)، أي أنه (اختلاف جزئي)، فإذا تحول هذا الاختلاف الجزئي إلى (اختلاف كلي)، ولم يعد الموضوع المختلف جزءا من المجتمع أصلا، انعدمت رغبة المجتمع في المقارنة بينه وبين ذلك الموضوع، كالسائح الذي يسير في الطريق بزي غريب عما اعتاده أهل البلدة، لكنه لا يخجل منهم لأنهم لا يتوقعون أن يشابههم في زيهم، إنه (مختلف كليا) .

هكذا يطمئن الإخواني نفسه: «أنا طبقا لما عليه المجتمع فلا اختلاف» وهكذا يطمئن السلفي نفسه: «لست من هذا المجتمع أصلا فلا مقارنة».

كل خير في اتباع من سلف.. !!

المهرب الذي فرّ السلفي من مجتمعه إليه هو مهرب زماني ذو مسحة مكانية، كلمة (السلفية) قد تفسر على أنها: اتباع ما عليه السلف، لكنها على وجه الحقيقة تعني: الفرار إلى زمان السلف. ليس ما عليه السلف هو المطلوب الأول، بل تلك النقلة الزمنية ذاتها، إرادة مغادرة المجتمع. وإلا فبعض ما يقبله السلف عندنا الآن هو مرفوض عند الإنسان السلفي لا لشيء إلا لأنه (الآن)، وبعض ما لا وزن له عند  السلف قد احتفى به الإنسان السلفي لا لشيء إلا لأنه (هناك.. عند السلف) .

أما البعد المكاني لعملية الهروب الكبير تلك فلعلكم لاحظتم زي الجزيرة العربية الذي تسرب إلينا في غفلة من أمرنا أو بمعنى أدق: تم استدعاؤه

القميص الأبيض والغترة الخليجي

قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ»، لكن لدينا ما يكفي من المبررات لنظن أن ظاهرة (الجلاليب البيضاء) تعود (في أصل نشأتها) إلى تقليد أهل الجزيرة أكثر من التزام الأمر النبوي، رغم أننا لا ننكر أن الكثير من الفضلاء حقا قد اعتبروها قربة إلى الله، وبعضهم كان يعي أنها مسايرة لما عليه الحال.

أولا : مناط الاستحباب في الحديث هو (اللون الأبيض)، في حين أن ترى عناصر مضافة إلى ذلك المناط دون وجه حق، فستجد عند السلفيين أن فتفصيلة القميص نفسها، حتى لو لم يكن أبيضا، لها أيضا دلالة الانتماء للكيان. ثم إن غطاء الرأس الخليجي (الغُترة) لا يتعلق به أيضا وجوبا ولا استحبابا، والغترة في ذلك شأنها شأن القميص الباكستاني (قميص إلى الركبة مع بنطال من نفس القماشة واللون)، فهو لم يكن زي النبي، صلى الله عليه وسلم، أصلا، ولا يتعلق به أي استحباب، بل إن النمط السلفي في نشوته الأولى في السبعينات قد صدر لنا والله من يرتدي الزي اليمني (رداء يلف حول الوسط).فليس الأمر إذا إلا  مجرد رغبة في الاختلاف .

سيستدلون بأن أحب الثياب إلى رسول الله القميص، هذا أمر مردود أيضا، لأنها من سنن العادات، والشيخ الألباني نفسه شيخ السلفيين قد اعتمد على هذا التمييز حين انتقد التبليغيين، فقد سُأل: « هل قول جماعة التبليغ: إن السنة للمدرس أن يدرس وهو جالس والسنة للداعي أن يدعو إلى الله وهو واقف ممسك العصا بيده، صحيح؟» فأجاب: «أنهم لا يفرقون بين السنة التعبدية والسنة العادية الرسول عليه السلام كان له عصا تسمى بالمحجم لها عكفة، وكانت تنصب له في العراء إذا صلى، خاصة في المصلى كانت تنصب له ليصلي إليها، فهذه كان يستعملها الرسول عليه السلام للحاجة لكن إذا خرج من بيته إلى المسجد، وهو قوي البنية شاب، فلماذا يتكئ عليها؟! لكن أنا أدري ما هو السبب: إنهم أولاً: لا يعرفون هذه القاعدة: التفريق بين سنة العادة وسنة العبادة». (وسنتحدث لاحقا عن مغزى العصا التي يمسك بها التبليغي.. فلها قصة مثيرة) .

ثانيا : مسألة اللون الأبيض نفسها يتعلق بها ملاحظة هامة، وهي أن درجة استحبابها من النبي، صلى الله عليه وسلم، لا تتناسب مع درجة التزام السلفيين بها، فمن ناحية النبي، صلى الله عليه وسلم، وصحابته قد ارتدوا ما هو غير أبيض، فلا يدل حديثه على إلزام، ومن ناحية السلفيين فقد تركوا غير ذلك من المستحبات ففعلهم ليس موصولا إلى النبي كالتزام .

قال الشوكاني في «نيل الأوطار»: « والأمر المذكور في الحديث ليس للوجوب، أما في اللباس، فلما ثبت عنه، صلى الله عليه وسلم، من لبس غيره وإلباس جماعة من الصحابة ثيابا غير بيض، وتقريره لجماعة منهم على غير لبس البياض». ورغم أن السلفيين يقرّون لك بأن الأمر هو مجرد استحباب، إلا أن الواقع يدل على أنه ثم (وجوب ضمني) قد اتفق عليه الجميع دون تصريح. فدل ذلك على أن المطلوب الحقيقي هو الاختلاف لا أكثر .

 حتى أسلوب المصافحة أصبح خليجيا، فوجدنا في مصر يرتدون القميص ويقبلون أكتاف بعضهم البعض عند اللقاء، حتى الأثمد الذي كان يتداوى به لأغراض طبية وقبل النوم، وجدنا بعضهم يزين نفسه به أمام الناس دون داعٍ طبيّ .

وعلى مستوى اللغة، فقد وفرت العربية الفصحى للسلفيين فرصة كبرى كي يدعموا مظهرهم كـ (أناس آخرين)، فقد استبدلوا كل ما استطاعوا من مفردات عربية بتلك المفردات (التي يستخدمها العوام)، مثل زعمهم الباطل بأن كلمة (صدفة) هي خطأ فاحش صوابه (قدرا). حتى علم التجويد قد وجدوا فيه ضالتهم كي يختلفوا عن المجتمع لا بمفرداتهم الخاصة، بل بلكنتهم الخاصة أيضا، فتجد السلفي يراعي أحكام التجويد في حديثه العادي، فتميزه عن غيره بسهولة من تقعره وتنطعه في طريقة الكلام، خاصة حرف العين التي يأتون بها من أسلف الحلق. حتى كلمة (إيش؟) المستفهم بها، قد وضعوها في دروسهم لغير سبب مفهوم بدلا من كلمة (إيه؟) المصرية .

بل لقد بالغ بعض الشيوخ المخلصين للنمط السلفي في مسألة اللغة فتعمد نطق بعض الألفاظ المعاصرة بطريقة خاطئة، فقد سمعت أحدهم في أحد دروسه يقول: «والزوجات في هذه الأيام لا يبالون بما عليه زوجه من تقوى، بل لا يهتمون إلى بالرحلات الصيفية وبالغسالة (الأوتاماتيك).. ألستم تنطقونها هكذا؟» فرد عليه الحاضرون: «أوتوماتيك يا شيخ»، فقال: «نعم هي كذلك». وما كلمة (إيش؟)، أي (إيه؟) التي كان يكثر منها بعضهم في دروسه من هذا المقصد ببعيد.   

الإنسان السلفي يخاطب المجتمع في مخيلته قائلا: «ما لك تنظرون إليّ هكذا؟ ليس لكم علاقة بي، لا أشبهكم ولا تشبهوني، أنا إنسان مختلف تماما، لست من هذا الزمان ولا من هذا المكان، هاهو مظهري ولساني يدلان على ذلك، طبيعي ألا أشبهكم في عاداتكم ونمط حياتكم، لكن لا بأس من أن تعتبروني ضيف عليكم  ومن ناحيتي لن أسبب لكم أي إزعاج، فقد لا تنظروا إلي هكذا باستغراب فهذا يحطمني». 



 لا عجب إذا من أنك ترى السلفي، رغم إصراره على أنه مختلف عن المجتمع، إلا أنه في النهاية مسالم له، وأي نقد يوجهه للمجتمع ليس بقصد تغييره ، بل فقط يؤكد لنفسه أنه مختلف عنه، فهو غير متحمس في الحقيقة لضرب المجتمع أو مهاجمته أو تفكيك لبناته وضمها إليه. ولا عجب من أن كل اعتراضات السلفيين على المجتمع إنها هي اعتراضات شكلية باردة، يتوجه بها السلفيون إلى أنفسهم لا إلى المجتمع، لأن المقصود هو خداع الذات لا تغيير المجتمع، وهي اعتراضات شكلية لأن الاختلاف في الشكل فقط هو ما يؤدي لهم مقصودهم من الإفراط في الاختلاف .

لكن يجب أن نعترف أن اعتراضنا على شكلية السلفيين هو نفسه اعتراض شكلي، لذلك لن نقف أمامه طويلا، لكن كان من الضروري أن نمسك أولا بإرادة الاختلاف عن المجتمع، وأن نستدل عليها حتى من أمور تافهة، ثم ننتقل من تلك الأمور إلى الحديث عن خطورة تلك الإرادة منذ نشأتها وما أحدثته من عرقلة لمسيرة الحركة الإسلامية .

ودعونا نطرح تلك التساؤلات: «ما علاقة موضوع (ولي الأمر) عند السلفيين بالنمط المسيطر عليهم والذي هو (الانسحاب من المجتمع)؟ وما هو دور (علم الحديث) وقضايا الأسماء والصفات في هذا الانسحاب؟ ولِمَ يتعامل الشيخ في النمط السلفي مع طالب العلم بنوع من العنجهية والصلافة يقابلها التلميذ بقبول ورضا ؟.

وأمر آخر أكثر أهمية: لقد ذكرنا أن الإسلاميين يمثلون (نمط المواجهة) وأن استدعائهم للتراث هو عمل من أعمال الصراع الحضاري وفي المقابل، زعم العلمانيون الذين يمثلون (نمط الهروب) أن الإسلاميين ماضويين وأنهم (هاربين إلى التراث) فهل صدق زعم العلمانيين بالإسلاميين في ضوء ما ذكرناه عن (ماضوية السلفيين) ؟

وأمر ثالث : لِمَ نأخذ على السلفيين إرادة الاختلاف رغم أن الاختلاف عن أهل الباطل هو مطلب جاءت به الشريعة؟ ورغم أن مطلب الهوية الحضارية يلبيه الاختلاف ؟

يبدو أن للسلفيين معنا حلقة أخرى.

تم الجزء العاشر ويليه الجزء الحادي عشر إن شاء الله.



الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (11)
يحيى رفاعي سرور غفر الله لنا وله ولوالده الشيخ رفاعى سرور رحمه الله رحمة واسعة
الخميس 10 يناير 2013
البناء النفسي للشخصية السلفية.. الجزء الثاني
( أنت تتحدث عن أخطاء فردية ربما تكون قد تأثرت بها في محيطك، ثم تقوم بتعميمها على تيار كامل تحمله وزرها، لكن ليس كل ما ذكرت في السلفية ينطبق على كل شيوخها.. ثم إنه من بين من هم غير سلفيين من تلبسوا ببعض ما أخذته على السلفيين، وفوق ذلك، فإن مآخذك كلها ذات طابع شكلي لا يستدعي منك الحمل عليهم بهذا الشكل وقد كان منهم فضلا لا ينكره أحد ) .  (مجموعة من المنتمين للنمط) .
الحقيقة أن شكلية الأخطاء التي استعرضناها، وعدم انتظام ظهورها في النمط السلفي، أي خلو بعض النمط من بعضها أحيانا، وظهور بعضها خارج النمط أحيانا أخرى، هذا كله أمر متوقع ولا يتعارض أبدا مع ما ذهبنا إليه، حين نتحدث عن إرادة «مغادرة المجتمع» وما يتصل بها من أعراض فنحن لا نتحدث عن (شروطا معلنة) للانضمام للنادي السلفي بحيث لو تخلف أحدها يفقد العضو سلفيته، بل نتحدث عن (نزعة نفسية مضمرة) تواكب بيئتها بنوع من المرونة، وتتخلى عن بعض أعراضها لصالح البعض الآخر إذا ما اقتضت ضرورة وجودها ذلك .
لكن على أي حال، ليس لكم خيار في أن تعترفوا إذا بأنه طالما أن تلك الأعراض محدودة فهي بالضرورة موجودة. وطالما أنها موجودة فهي تدل على معنى وتنشأ عن دافع. ولي الحق بعد ذلك أن أفترض أن الأعراض، بفرض عشوائيتها، إنما تدل على نزعة ثابتة مستقرة تعرف مقاصدها، وبفرض محدوديتها المزعومة، فهي تدل على دافع هو أكثر شيوعا من أعراضه، وأكثر خفاء منها .
أما الحديث عن شكلية الأعراض، فقد صدر عن قصور في الفهم أدى بصاحبه إلى الخلط بين (شكلية) الظاهرة و(عدم أهميتها)، إننا لم نقف عند ظواهر تافهة، لكننا وقفنا أمام ظواهر شكلية، وشكليتها مهمة ومقصودة بالنسبة لمن صدرت عنهم، وقد ذكرت أن نمط مغادرة المجتمع (مهتم) بالشكل لأنه هو ما يؤدي له وظيفة (الاختلاف). فالتفاهة إنما تعود إلى المهتمين بالشكل لا إلى من يفحصهم. والمقصود أن هذه المظاهر التي استعرضناها لا تعنينا في ذاتها أبدا، بل كل ما يعنينا هو ما تدل عليه من (قرار داخلي) متعلق بالانسحاب من المجتمع، وإلا فهل ضمنت لنا تلك النزعة الدخيلة أنها لن تزعجنا إلا بأمور صبيانية تافهة ؟
إن خطورة إرادة «مغادرة المجتمع» لا تكمن فقط فيما تشرئب من خلاله من سلوكيات لكنها تدل على انعدام إرادة «تغيير المجتمع» أصلا فإرادتي مغادرة المجتمع وتغييره لا تتواجد أحدهما إلا بمقدار ما تضمحل الأخرى. ولقد تكاملت إرادة «مغادرة المجتمع» واستقرت في النمط السلفي حتى صار تغيير المجتمع هو أمر لا يعنيهم في شيء، وإليكم هذه العبارة المشئومة التي ذكرها «الألباني» والتي تدل دلالة صارخة على مقصودنا، يقول: «إن هذا الطريق طويل ونحن نمشي فيه مشي السلحفاة لا يهمنا أن نصل ولكن المهم أن نموت على الطريق»، لقد قام الألباني بهدم فكرة النجاح تماما، إذ أن ذلك النجاح يعلنه الواقع، في الوقت الذي أخذ فيه الألباني على عاتقه مهمة الانفصال عن ذلك الواقع، لذلك لم يكن عقم الدعوة السلفية عن الإثمار طيلة عقود من الزمان أمرا مزعجا، طبعا باستثناء تضخم حجم النمط واستغراقه في المسائل العلمية، بل على العكس من ذلك، كان مصدر إزعاجهم دائما هو أي خطوة من شأنها تغير حالة العقم التي كانوا وما زالوا عليها. فلم يكونوا يكشرون عن أنيابهم إلا أمام أي تقدم إسلامي حقيقي، فلم يروا من أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلا أنه قتل للأبرياء، حتى العلميات الاستشهادية كانت بنظرهم انتحارا، حتى الجهاد الأفغاني الذين لم تسعفهم قريحتهم بتجريمه من أي ناحية، صمتوا عنه صمت الشيطان الأخرس، ولم يدعموه ولو بكلمة. حتى الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، امتنعوا عن تأييده وشنعوا عليه، أما من أيده منهم مجاراة للشباب الأقل إصابة بالنمط السلفي، كان يضربه في ظهره .
وإلى لقاء آخر مع النمط السلفي، نستعرض فيه مزيدا من المخاطر التي يصدر عنها إرادة مغادرة المجتمع، حيث سنجيب بمشيئة الله عن هذا السؤال: ما هي علاقة مسألة «ولي الأمر» عند السلفيين بإرادة مغادرة المجتمع؟ وكيف أسفرت هذه الإرادة عن تلك الفكرة؟ رغم أنها لا تحقق للنمط أي اختلاف عن المجتمع كما تفترض، بل كانت تبدو وكأنها تجعلهم أكثر شبها بالمجتمع من حيث سلبيته تجاه السلطة؟ وهل زالت ضرورة الحديث عن تلك المسألة بزوال السلطة الظالمة، أم أن الأمر له أبعاد أخرى تجعل دراستها أمرا ضروريا.
تم الجزء الحادى عشر ويليه الجزء الثانى عشر إن شاء الله.



الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (12)
يحيى رفاعي سرور غفر الله لنا وله ولوالده الشيخ رفاعى سرور رحمه الله رحمة واسعة
الجمعة 11 يناير 2013
البناء النفسي للشخصية السلفية (الجزء الثالث)
حل لغز «ولي الأمر» عند الدعوة السلفية
لو صح ما افترضناه من أن مسألة ولي الأمر عند الدعوة السلفية هي (رغبة في حاكم مستبد) وليست مجرد (تصرف اضطراري)، فإن ما طرأ على السلفيين من تغير بعد الثورة هو أمر لا يبعث على الاطمئنان للدرجة التي نظنها، فليس من شأن (الرغبات) أن تتبدد هكذا فجأة، وها نحن نظهر قدرا من الحذر تجاه الفلول حتى لو تلونوا بألوان الثورة، إدراكا منا بأن الرغبة متوفرة لديهم في ضرب الثورة في الخفاء، فليس هؤلاء بأقل خطرا من أولئك .
ستبدو تلك المقدمة قاسية إلى حد ما، أن نضع في كفة واحدة أولياء النظام السابق وربائبه بمن أخطأ من الإسلاميين في تقدير الأمور، أو من آثروا السلامة حرصا على أنفسهم، لكني قد قلت في أول الفقرة: «لو صح ما افترضناه من أن مسألة ولي الأمر عند الدعوة السلفية هي رغبة في حاكم مستبد وليست مجرد تصرف اضطراري»، أليس كذلك ؟.
إن الوقائع لتبرر تشاؤمى وحذري وصدق كلامى، ألم يكن ولي الأمر الظالم المفتري قد زال خطره بعد الثورة حين اقترح العجوز ( ياسر برهامي) أن يستمر المجلس العسكري في الحكم؟ وحين جس نبض المحيطين به في ترشيحه لـ (شخصية عسكرية مشهود لها بالكفاءة) كرئيس للجمهورية؟ وحين اكتشفنا من هي تلك الشخصية بعد فضيحة زيارته لـ (أحمد شفيق)؟، وحين تخلت الدعوة السلفية عن الشيخ (حازم صلاح أبو إسماعيل)؟ وحين اقترح (عبد المنعم الشحات) على أهالي الشهداء أن يرضوا بالدية ؟، وحين التصقت الدعوة السلفية بالمجلس العسكري في كل مواقفه أثناء إدارته للفترة الانتقالية ؟، وحين امتدح العجوز (ياسر برهامي) الدستور بأنه أقل إطلاقا للحرية من غيره!؟.
ألا تتجانس تلك المواقف السابقة مع دعم متطرفي النمط السلفي لـ (أحمد شفيق) صراحة بشكل مباشر وغير مباشر، من (أحمد سعيد رسلان)؟ صحيح أن مواقف (رسلان) و(زهران) مبالغ فيها، لكن متى نؤمن بأن الشيء المبالغ فيه هو شيء أصلا موجود، وأن الحذر منه واجب حتى في الحالات التي لا تحمل مبالغة فيه؟ لقد بالغ (رسلان) و(زهران) في مسألة ولي الأمر، إذا هو داء موجود عند غيره (بشكل غير مبالغ فيه)، أو (بشكل أكثر حذرا) .
صحيح أن تلك المواقف لم تأخذ حظها وتم وأدها في مهدها والحمد لله، لكن ألا يدلنا ذلك على أن (الرغبة في الحاكم المستبد) كامنة تنتظر الوثوب؟ ولِمَ تم وأد تلك المواقف المخزية ؟ أليس لأننا أصبحنا أكثر رفضا لتلك المواقف، ما المانع من أن يقترن هذا الرفض من جانبنا بوعي بأسبابها ومخارجها من الشخصية السلفية ؟ أليس ذلك أدعى إلى السيطرة عليها ؟.
أليس تطوير الدعوة السلفية على مدار العقود السابقة لعلاقة بالسلطة الفاسدة هي الأكثر انحطاطا في نوعها، هو أمر جدير على الأقل بالفهم؟ أليست هذه هي (الخبرة) التي يجب على الحركة الإسلامية أن تتزود بها من تاريخها، وما الخبرة إلا وعيا بأسباب ما قد حصل، للسيطرة على ما قد يحصل؟
من أجل ذلك أصر على أن تحليل موقف الدعوة السلفية من الأنظمة الفاسدة، حتى بعد زوال تلك الأنظمة، هو أمر ضروري لازم بلا شك .
أصل الأزمة: المعايشة الخيالية للبيئة البديلة
لكن .. ما الذي يدعونا إلى أن نفترض ذلك الفرض الغريب: أن نمط «مغادرة المجتمع» والمتمثل في السلفية تعتمل داخله الرغبة في الحاكم المستبد ؟ أليس من الأولى أن تعتبرهم أساءوا التقدير، أو حتى على أسوأ تقدير: كانوا جبناء ؟ ما الذي يجعلنا نقفز فوق هذين الاحتمالين ونقرر أن النمط السلفي يرغب في الحاكم المستبد؟ وإذا كنا قد ذكرنا أن بؤرة النمط السلفي هو «مغادرة المجتمع»، وأن وسيلته في تلك المغادرة هي «إرادة الاختلاف» في المظهر الخارجي، فأي وظيفة تحققها الرغبة في الحاكم المستبد لإرادة «مغادرة المجتمع» ؟
الحقيقة أن مسألة «ولي الأمر» عند الدعوة السلفية لا يمكن فهمها في ضوء فعل «مغادرة المجتمع» ذاته، بل من خلال البيئة التي غادر إليها السلفيون، المجتمع البديل الذي اختاروه، أقصد مجتمع بني أمية، حيث استلهموا أبرز الخصائص السياسية لأهل السنة في ذلك المجتمع، وانتزعوها من سياقها التاريخي، وتمثلوها وبدأوا في محاكاتها دون أدنى اعتبار لاختلاف ملابساتها عن ملابسات الواقع، أعني ما تميز به أهل السنة قديما دون سائر الفرق الأخرى بموقف عدم الخروج على ولي الأمر مهما بلغ من ظلم واستبداد .
السياق السياسي لمسألة ولي الأمر عند السلف قديما
وموقف أهل السنة مبرر ومفهوم في سياقه التاريخي، فبعد موقعة (دير الجماجم) التي قادها (الحجاج بن يوسف الثقفي) ضد الثائرين على بني أمية، وبعد أن راح ضحية ذلك الصراع الآلاف من العلماء ومن حفظة القرآن، خاف أهل السنة على أصل ملتهم من الزوال، فاعتصموا ببني أمية رغم ظلمهم، وكفوا عن مناوأتهم ومعاندتهم، في حين أصرت الفرق الأخرى على ضرورة الخروج على الحاكم لأجل ظلمه، ولم يكن ذلك منهم عن كراهية للظلم، بل كان مكيدة لسلطان أهل السنة وطمعا إرهاق دولة العرب والمسلمين، خاصة وقد تسربت الشعوبية إلى سائر الفرق القديمة. وكلما سعى أهل البدع إلى إسقاط دولة المسلمين بدعوى ظلم الحاكم سار أهل السنة على التضاد معهم حتى أصبحت مسألة ولي الأمر تدون كمعلَم من معالم أهل السنة في كتب العقيدة، فقال الإمام الطحاوى: «ولا نرى الخروج على أئمتنا في هذه البلاد، وإن جاروا وظلموا، ولهم علينا حق السمع والطاعة، وإن جلدوا ظهورنا وأخذوا أموالنا، إلا أن نرى كفرا بواحا لنا فيه من الله برهان».
ومن تقدير الله أننا نعيش بعد الثورة حال شبيه بحال اعتصام أهل السنة قديما بالسلطة تحرزا من وثبة أهل البدع والإلحاد عليها، ذلك أننا اليوم رغم مآخذنا على الإخوان، إلا أننا ندعم وجودهم في السلطة، ونحرص على دعم النظام وتثبيت أركانه، وما ذلك إلا لأننا رأينا تحالف العلمانيين والفلول والنصارى على النظام، وحرصهم على استنزاف طاقة الدولة، واستفراغ قوتها، وتربصهم لكل ما يصدر عن الحاكم، وتشنيع الشعب عليه وإثارتهم ضده، وما ذلك لأنهم ثوريون، بل لأنهم رافضين لوجود الإسلاميين في الحكم. فحالنا اليوم هو أقرب ما يكون من حال السلف مع السلطة قديما، وهذه من تلك .
غير أن موقف السلفية لم يكن يصدر قبل الثورة عن نفس العلة التي نتحدث عنها، بل كان يصدر عن محاكاة غير منطقية ومعايشة تخييلية لواقع أهل السنة قديما، فموقفهم من النظام البائد، لم يكن يُرجى منه الإبقاء على الملة، ولم يكن يُطمع من ورائه في ترسيخ حكم الإسلاميين في مصر. لقد انتزعوا موقف أهل السنة من سياقه التاريخي وحشروه في مجتمعنا دونما أي مراعاة للتباين بين الحالتين، فصار أحدهم كمن يجدف في الصحراء إعجابا منه ببحار متمرس، أو يحرث في الماء إعجابا منه بفلاح خبير .
موقف الدعوة السلفية العريق من الأنظمة الفاسدة لم يكن نوعا من الغباء السياسي، ولم تكن عمالة للنظام وخيانة منهم لأتباعهم، فالكثير منهم زاهد في المال وراغب عن الأضواء والشهرة. لكن الأمر هو أنهم يتعاملون فعلا، على مستوى التخييل، مع بني أمية ومع الحجاج بن يوسف، ويرفضون الخروج على (الوالي) حتى لا يتجرأ الناس على ملة المسلمين !.
الدعوة السلفية  بين أحمد شفيق
والحجاج بن يوسف الثقفي
بعض المشاهد بعد الثورة تؤكد الطابع الخيالي لمسألة ولي الأمر عند السلفيين، فالشيخ (أبو إسحاق الحويني) أثناء أزمة جنسية والدة الشيخ حازم أبو إسماعيل، وفي مداخلة له على قناة الحكمة، يتقدم للشيخ حازم بنصيحة غريبة في صياغتها فيقول له: « لا تقاتل عليها إن لم تفز بها » وواضح هنا أن الشيخ (أبو إسحاق الحويني) بحديثه عن (القتال!) كان يتخيل نفسه ابن عباس أو ابن عمر أثناء ثنيهما للحسين بن علي عن قتال معاوية (رضي الله عن الجميع) .
الدفاع عن بني أمية و(الحجاج بن يوسف) وقائعه متكررة عند السلفية، وغالبا ما يأتي في سياق التصدي للشيعة، فها هو الشيخ (الحويني) يضرب مثلا بـ (الحجاج بن يوسف) لـ الرجل الذي يذكر الله إذا ذُكر به، وهذا (طلعت زهران) صاحب مقولة: « لو تمكن شنودة فهو إمامنا »، يلقي خطبة بعنوان: « كلمة حق في يزيد بن معاوية » أظلم وأفسق من عرف في بني أمية من حكام. وهذا (محمد بن عبد الرحمن المغراوي) فقد ألف كتابا في الدفاع عن معاوية بعنوان: «من سب الصحابة ومعاوية فأُمه هاوية ». وهذا (سعد بن ضيدان السبيعي) فيصنف كتابا بعنوان: « سل السنان في الذب عن معاوية بن أبي سفيان ».
ومن هنا نفهم تلك الوقائع الخاصة بالعلاقة الغريبة التي كان الاستياء منها أسهل من محاولة فهمها، بين الدعوة السلفية وبين (أحمد شفيق)، فرغم أن المتوقع والمنطقي هو أن يدعم السلفيون من هو أقرب إليهم منه دينيا، أي (محمد مرسي)، إلا أن (اللامنطق) الكامن في العقلية السلفية، أقصد الرغبة في الحجاج بن يوسف الثقفي، قد تسربت إلى الأحداث وتجسدت في وقائع غريبة، فبعضهم قد قام بدعمه علانية، وبعضهم قد اكتفى بحرب شرسة ضد منافسه الإسلامي (رسلان في خطبة بعنوان: ماذا لو حكم الإخوان مصر)، وكبيرهم العجوز برهامي وتورطه في فضيحة التواصل سرا معه، وبعضهم أكد أنهم راضون بما تأتي به الصناديق في الوقت الذي كان التهديد بالنزول للميدان لو فاز شفيق (أشرف ثابت)، وبعضهم دعم (محمد مرسي) ولكن ببرود .
علاقة الدعوة السلفية بأحمد شفيق ليس لها أي تفسير سوى أنه، كمشروع مستبد، أكثر تمثيلا للحجاج بن يوسف الثقفي، وأكثر قدرة على مداعبة الخيال المريض للدعوة السلفية التي تربطها بالاستبداد الأموي وشائج يصعب أن تنفصم .
ولنا لقاء آخر مع السلفية أيضا ..

تم الجزء الثاني عشر ويليه الجزء الثالث عشر بإذن الله



ليست هناك تعليقات: