السبت، 30 أغسطس 2014

تأمــلات فى نشـــأة حســـن البــنا

ولد حسن البنا فى إحدى قرى البحيرة ونشأ نشأة دينية على طريقة صوفية حصافية شاذلية أثرت فى فكره وفى فكر الاخوان المسلمين حتى اليوم فلا عجب أن تكون جماعة الاخوان المسلمين جماعة صوفية ( وهذا هو كلام حسن البنا نصا ) .. وقد كانت القرية التى نشأ فيها حسن البنا يسود فيها الفكر الصوفى على الطريقة الحصافية الشاذلية .
يقول البنا فى كتابه مذكرات الدعوى والداعية تحت عنوان : ( الطريقة الحصافية ) ما نصه : 
فى المسجد الصغير رأيت الإخوان الحصافية يذكرون الله تعالى عقب صلاة العشاء من كل ليلة (كان هذا الذكر على طريقة ذكر المريدين التى يمارسها المريد ليرتقى لدرجة العارفين والعارف تعريفه عندهم أن العارف إذا نظر فى المرآة تجلى له مولاه)
وكنت مواظبا على حضور درس الشيخ زهران رحمه الله بين المغرب والعشاء  فاجتذبتنى حلقة الذكر بأصواتها المنسقة ونشيدها الجميل وروحانياتها الفياضة وسماحة هؤلاء الذاكرين من شيوخ فضلاء وشباب صالحين وتواضعهم لهؤلاء الصبية الصغار الذين اقتحموا عليهم مجلسهم ليشاركوهم ذكر الله تبارك وتعالى فواظبت عليها هى الاخرى ( أى ان حسن البنا كان من ضمن المريدين المواظبين على حلقات الذكر الصوفية ) توطدت الصلات بينى وبين شباب هؤلاء الاخوان الحصافية ومن بينهم الثلاثة المقدمون الشيخ شلبى والشيخ محمد ابو شوشة والشيخ سيد عثمان والشبان الصالحون الذين كانوا اقرب الذاكرين إلينا فى السن : محمد افتدى الدمياطى وصاوى افتدى الصاوى وعبد المتعال افتدى سنكل وأضرابهم  وفى هذه الحلبة المباركة التقيت لأول مرة بالأستاذ السكرى فكان لهذا اللقاء أثر بالغ فى حياة كل منا ومنذ ذلك الحين أخذ اسم الشيخ الحصافى يتردد  على الأذن  فيكون له أجل وقع فى أعماق القلب وأخذ الشوق والحنين إلى رؤية الشيخ والجلوس إليه والأخذ عنه يتجدد حينا بعد حين وأخذت أواظب على الوظيفة الروحية صباحا ومساء
(وهذا يعنى أن البنا كان على درجة المريد أى الخاصة وهو يسعى للوصول إلى درجة العارفين لذلك كان يشتاق وينتظر أن يلتقى بالشيخ)  وزادنى بها إعجابا أن الوارد قد وضع عليها تعليقا لطيفا جاء فيه بأدلة صاغها جميعا من الأحاديث الصحيحة وسمى هذه الرسالة : ( تنوير الأفئدة الذكية بأدلة أذكار الرزوقية ) ولم تكن هذه الوظيفة أكثر من آيات من الكتاب الكريم وأحاديث من أدعية الصباح والمساء التى وردت فى كتب السنة تقريبا ليس فيها شئ من الألفاظ الأعجمية .... إلى أن قال : وزادنى تعلقا بالشيخ الجليل رحمه الله (يقصد الشيخ الحصافى)  أننى رأيت فى هذه الأثناء فى ما يرى النائم أننى ذهبت إلى مقبرة البلد فرأيت قبرا ضخما يهتز ويتحرك ثم زاد اهتزازه واضطرابه حتى انشق فخرجت منه نار عالية امتدت إلى عنان السماء وتشكلت فصارت رجلا هائل الطول والمنظر واجتمع الناس عليه من كل مكان فصاح فيهم بصوت واضح مسموع : أيها الناس إن الله قد أباح لكم ما حرم عليكم فافعلوا ما شئتم .. فانبريت له من وسط هؤلاء الجمع وصحت فى وجهه : كذبت والتفت إلى الناس وقلت لهم أيها الناس هذا إبليس اللعين وقد جاء يفتنكم عن دينكم ويوسوس لكم فلا تصغوا إلى قوله ولا تستمعوا إلى كلامه .
( فالبنا ينكر فى المنام على هذا الرجل لأنه لتوه خرج من درجة العابدين لدرجة المريدين ولم يعلم كرامات العارفين بعد فلو رأى العارف هذا المنام فلن يسميه شيطانا بل سيقول أن الله تجلى له فى هذه الصورة )  ...  فغضب الرجل وقال : لابد أن نتسابق أمام هؤلاء الناس فإن سبقتنى ورجعت إليهم ولم أقبض عليك فأنت صادق .. فقبلت شرطه وعدوت أمامه بأقصى سرعتى .. وأين خطو الصغير من خطوه الجبار وقبل أن يدركنى ظهر الشيخ من طريق معترضا وتلقانى فى صدره واحتجزنى  يسارا ورفع يمناه مشيرا بها إلى هذا الشبح صائحا فى وجهه : اخسأ يا لعين فولى الأدبار واختفى وانطلق الشيخ بعد ذلك .. فعدت إلى الناس وقلت لهم : أرأيتم كيف أن هذا اللعين يضلكم عن أوامر الله واستيقظت وكلى شوق وتقدير وترقب لحضور السيد عبد الوهاب الحصافى نجل الشيخ رحمه الله لأراه واتلقى عنه الطريقة لكنه لم يحضر .
 (وكان البنا يشد الرحال إلى القبور وأولياء الله الصالحين فكان يسير اكثر من ثلاث ساعات مع مجموعة من الشباب ليزوروا قبر ابراهيم الدسوقى أو غيره وهذا موجود بالتفصيل فى مذكرات البنا وما يهمنا هنا هو استنباط تركيبة البنا الشخصية وفكر البنا وكيفية تشكل فكرة انشاء الجماعة فى رأسه فقد أقامها على هذا الفكر الصوفى الذى عاشه البنا بكل خلية وكرة دم فى جسده)  ويستكمل البنا سرد مذكراته قائلا ويذكرنى حديث المقبرة بما  كان لأخينا فى الله الشيخ محمد ابو شوشة التاجر بالمحمودية  علينا من فضل فى التربية الروحية : كان يجمعنا عشرة ويذهب بنا إلى المقبرة حيث نزور القبور ونجلس بمسجد الشيخ النجيلى نقرأ الوظيفة (وهى الورد فى مصطلح الصوفية فحسن البنا لم يتقيد بالصوفية بحرفيتها فقد صمم صوفية ذهنية من تصوره هو ارتضاها لنفسه ووصف بها جماعته قائلا حقيقة صوفية .. ولذلك اختلف البنا بعد ذلك مع شيخ الطريقة فاختار البنا أن يُنشئ جماعته الخاصة بمنهجيته المستقلة وفكره المستقل الذى هو ليس صوفيا من أصحاب وحدة الوجود .. ولا هو على منهج الكتاب والسنة ) 
ويستأنف البنا قائلا :  ثم يعرض الشيخ ابو شوشة علينا القبور المفتوحة ويذكرنا بمصيرنا إلى ظلمة القبور ووحشتها و يبكى فنبكى ثم نجرى التوبة فى خشوع وحرارة واستحضار عجيب وندم وعزم .. ثم كثيرا ما كان يربط لكل واحد منا حول معصمه سوارا من الخيط الغليظ فإذا حدثته نفسه بالمعصية أو غلبه الشيطان فليمسك بهذا السوار وليتذكر بأنه تاب إلى الله وعاهده على طاعته وترك معصيته  وقد كنا نستفيد من هذه النصيحة كثيرا فجزاه الله عنا خير الجزاء .... وظللت معلق القلب بالشيخ حتى التحقت بمدرسة المعلمين الأولية بدمنهور وفيها مدفن الشيخ وضريحه وقواعد  مسجده .
 ( يتلاحظ هنا أن سمت البنا التعلق بالأضرحة ومساجد الأولياء فهذا الأمر لا حرج عنده منه والاخوان حتى الأن لا يستنكرون ذلك رغم أن النبى صلى الله عليه وسلم لعن المتخذين المساجد على القبور ) 
واستمع إليه مسترسلا : كنت مواظبا على الحضور فى مسجد التوبة فى كل ليلة وسألت عن مقدم الإخوان الحصافية الشاذلية فعرفت أنه الرجل الصالح التقى الشيخ بسيونى العبد التاجر فرجوته أن يأذن لى بأخذ العهد عليه ففعل .  ( ليصل البنا إلى درجة العارف فيصبح العارف بالله حسن البنا ) ووعدنى بأنه سيقدمنى للسيد عبد الوهاب الحصافى عند حضوره  ولم اكن حتى ذلك الوقت قد بايعت أحدا فى الطريق بيعة رسمية ( ومن هنا فالبيعة حتى الأن من أسس منهج  الاخوان وهى مأخوذة عن بيعة الصوفية وليست بيعة اسلامية فما المرشد إلا شيخ الطريقة الاخوانية وبيعته فى عنق كل إخوانى ) .. حضر السيد عبد الوهاب نفع الله به إلى دمنهور وأخطرنى الإخوان بذلك فكنت شديد الفرح بهذا النبأ وذهبت إلى الوالد الشيخ بسيونى ورجوته أن يقدمنى للشيخ ففعل وكان ذلك عقب صلاة العصر من يوم 4 رمضان سنة 1341 وإذا  لم تخنى الذاكرة فقد كان يوافق يوم الأحد حيث تلقيت الحصافية الشاذلية عنه وأدبنى بأورادها ووظائفها.
وهنا أصبح لدينا العارف بالله حسن البنا.. وإلى المقال التالى: 

ليست هناك تعليقات: