سابعا : تعمل بصورة جماعية
ومن صفاتها أن الطائفة المنصورة تعمل بصورة جماعية منظمة عليها أمير مطاع والذي يقرر ذلك أمور نجمل ذكرها في النقاط التالية:
1- إن المهام التي تقوم بها الطائفة المنصورة والتي منها القتال في سبيل الله يستحيل القيام بها إلا من خلال عمل جماعي منظم .. أخذ بجميع أسباب القوة والظهور كما قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) الصف:4 .
والقاعد الفقيهة تقول: مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والقول بخلاف ذلك: يعني ضياع كثير من الواجبات الشرعية التي منها الجهاد في سبيل الله ويعني كذلك الفردية والتشرذم وال
فرقة والاختلاف وهذا بخلاف ما أمر الله به ورسوله كما قال تعالى:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) آل عمران:103.
فرقة والاختلاف وهذا بخلاف ما أمر الله به ورسوله كما قال تعالى:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) آل عمران:103.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إن الله يرضى لكم أن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم:( عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة) [صحيح سنن الترمذي:1758].
وقال :( يد الله مع الجماعة) [صحيح سنن الترمذي:1760]. وقال صلى الله عليه وسلم:( الجماعة رحمة والفرقة عذاب )[رواه ابن أبي عاصم في السنة وصححه الألباني في التخريج].
وغيرها كثير من الأدلة التي تأمر بالجماعة والاعتصام بحبل الله، وتنهى عن الفرقة والاختلاف.
والغريب في الأمر: أن الذين يستهوون الفردية .. والعمل الفردي بعيداً عن الجماعة .. الذين تقشعر جلودهم من كل عمل منظم ـ يهدف إلى التعاون على الخير ـ ينتصرون بهذه النصوص على صواب ما هم عليه من فردية وتشرذم وتفرق قاتل ويستشهدون بها على خطأ كل من يدعو الأمة إلى أن تنتظم في جماعة واحدة على قلب رجل واحد وعلى منهاج واحد .. منهاج النبوة !!
فحملوا النصوص الشرعية من المعاني مالا تحتمل ووضعوها في غير موضعها ومنزلها الذي أراده الشارع !!
2- الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال: فينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقول أميرهم تعال صلِّ لنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة ) .
فالحديث فيه فوائد عدة منها:( صحة وشرعية الإمارة على هذه الطائفة على لسان نبينا ) حيث قال:( فيقول أميرهم ) وعلى لسان عيسى عليه السلام( إن بعضكم على بعض أمراء ) ولا ينبغي أن يحمل هذا ـ أي صحة الإمارة ـ على آخر الطائفة وقت نزول عيسى عليه السلام دون ما قبله من الأزمنة فإن إضافة الأمير إلى الطائفة( أميرهم ) مع بيان أن صفة هذه الطائفة هي الاستمرارية ( لا تزال ) يبين استمرارية هذه الإمارة وصحتها وإن الإمارة صفة لازمة لهذه الطائفة في كل زمان ( لا تزال .. أميرهم ) فإذا ثبت أنه تأتي على المسلمين أزمنة يفتقدون فيها الإمامة الكبرى( الخلافة ) وثبت صحة واستمرارية الإمارة على الطائفة المنصورة فتكون الإمارة على هذه الطائفة في حالة انعدام الإمارة صحيحة إن شاء الله تعالى [عن كتاب" العمدة في إعداد العدة " للأخ الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز ص 68. وهو كتاب مفيد ننصح بقراءته].
3- قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ) [رواه أبو داود، صحيح الجامع:500].
وفي رواية عند أحمد:( لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم ) .
فإذا كان ثلاثة في سفر تتعين عليهم الإمارة درءاً لحصول الفرقة والاختلاف فيكون من باب أولى أن تتعين الإمارة على ما هو أعظم من السفر كالجهاد في سبيل الله من أجل استئناف حياة إسلامية على منهاج النبوة.
قال ابن تيميه رحمه الله: يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم:( إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ) وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم ) فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيهاً بذلك على سائر أنواع الاجتماع ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة وكذلك سائر ما أوجب من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى الله فإن التقرب إليه بطاعتـه وطاعة رسوله من أفضل القربات [الفتاوى: 28/ 390، 391]ا- هـ.
وقال الشوكاني بعد أن ذكر أحاديث الإمارة في السفر: فيها دليل على أنه يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعداً أن يؤمروا عليهم لأن في ذلك السلامة من الخلاف الذي يؤدي إلى الإتلاف فمع عدم التأمير يستبد كل واحد برأيه ويفعل ما يُطابق هواه فيهلكون ومع التأمير يقل الاختلاف وتجتمع الكلمة وإذا شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض أو يسافرون فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار ويحتاجون لدفع التظالم وفصل التخاصم أولى وأحرى [نيل الأوطار: 8/ 256] ا- هـ.
وقال إمام الحرمين الجويني: فإذا خلا الزمان عن السلطان وجب البدار على حسب الإمكان إلى درء البوائق عن أهل الإيمان إلى أن قال: وإذا لم يصادف الناس قوَّاماً بأمورهم يلوذون به فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن عم الفساد البلاد والعباد.
وقد قال بعض العلماء: لو خلا الزمان عن السلطان فحق على قطان كل بلدة وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهى وذوي العقول والحِجا من يلتزمون امتثال إشارته وأوامره وينتهون عن مناهيه ومزاجره فإنهم لو لم يفعلوا ذلك ترددوا عند إلمام المهمات وتبلدوا عند إظلام الواقعات.
ولو انتُدِب جماعة في قيام الإمام لغزوات وأوغلوا في مواطن المخافات تعين عليهم أن ينصبوا من يرجعون إليه إذ لو لم يفعلوا ذلك لهووا في ورطات المخافات ولم يستمروا في شيء من الحالات[غياث الأمم في التياث الظلم، ص 387- 388] ا- هـ.
4- وكذلك مما يستدل به على تجويز الإمارة وشرعيتها لغير الخليفة في حال غيابه ما فعله الصحابة رضوان الله عليهم يوم ( مؤتة ) عندما قُتل أمراؤهم الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم .. فاجتمعوا على تأمير خالد بن الوليد من دون تأمير ولا إذنٍ من النبي صلى الله عليه وسلم وعندما بلغ الخبر النبي صلى الله عليه وسلم استحسن صنيعهم وسمى خالداً يومئذ سيف الله.
قال ابن حجر في الفتح: فيه جواز التأمر في الحرب بغير تأمير قال الطحاوي: هذا أصل يؤخذ منه أن على المسلمين أن يقدموا رجلاً إذا غاب الإمام يقوم مقامه إلى أن يحضر[فتح الباري:7/ 586] ا- هـ.
وقال ابن قدامة في (المغني ): فإن عُدم الإمام لم يؤخر الجهاد لأن مصلحته تفوت بتأخيره قال القاضي: فإن بعث الإمام جيشاً وأمر عليهم أميراً فقتل أو مات فللجيش أن يؤمروا أحدهم كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في جيش مؤتة لما قتل أمراؤهم الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أمروا عليهم خالد بن الوليد فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فرضي أمرهم وصوب رأيهم وسمى خالداً يومئذ سيف الله[المغني:7/ 167] ا- هـ.
5- كذلك فإن السنة دلت على أن الأمير المعين من قبل الخليفة في حال عصيانه للأوامر يُعزل ويستبدل بأمير آخر من دون علم الخليفة العام إن تعذر إعلامه.
كما في الحديث الذي يرويه أبو داود في سننه عن بشر بن عاصم عن عقبة بن مالك ـ من رهطه ـ قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فَسَلَحَت رجلاً منهم سيفاً فلما رجع قال: لو رأيت ما لامنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( أعجزتم إذ بعثت رجلاً منكم فلم يمض لأمري أن تجعلوا مكانه من يمضي لأمري؟!) [ صحيح سنن أبي داود:2387].
قال أبو الطيب شمس الحق آبادي:( فلم يمض لأمري ) قال في المجمع في مادته مضى: وفيه إذا بعثت رجلاً فلم يمض أمري أي إذا أمرت أحداً أن يذهب إلى أمر أو بعثته لأمر ولم يمض وعصاني فاعزلوه. ( أن تجعلوا ) أي أعجزتم من أن تجعلوا .. [عون المعبود شرح سنن أبي داود: 7/209] ا- هـ.
وهذا لوم من النبي صلى الله عليه وسلم لهم على تقصيرهم في عزله وعدم تأمير من ينوب عنه في تنفيذ المهام الموكلة إليه على وجه أفضل.
والأدلة كثيرة التي تدل على شرعية انعقاد الإمارة لغير الخليفة في حال غيابه ـ سواء كان غيابه غيابَ حضور أم غياب انعدام كما هو الحال في زماننا ـ وفيما ذكرناه من الأدلة القدر الكافي لمن يسأل عن الحجة في المسألة ويبتغي الحق متجرداً عن هواه.
وقد وهم علي بن حسن الحلبي في كتابه( البيعة بين السنة والبدعة ) [طبع المكتبة الإسلامية] الذي أراد فيه أن يبطل شريعة البيعة والإمارة لغير الخليفة حيث قوّل ابن تيمية ما لم يقل ونسب إليه مالا يصح عنه .. فنقل عنه قوله في( مجموع الفتاوى 28/ 18): (من أنه إذا كان مقصودهم بهذا الاتفاق والانتماء والبيعة التعاون على البر والتقوى فهذا قد أمر الله به ورسوله له ولغيره دون ذلك الاتفاق وإن كان المقصود به التعاون على الإثم والعدوان فهذا قد حرمه الله ورسوله فما قصد بهذا من خير ففي أمر الله ورسوله بكل معروف استغناء عن ذلك الاتفاق وما قصد بهذا من شر فقد حرمه الله ورسوله) .
قلت : وهذا ليس هو نص ابن تيميه كما هو في( مجموع الفتاوى) (28/18) وكان رحمه الله يجيب عن علاقة التلميذ بمعلمه وعن شرعية شد وسط التلميذ لمعلمه ولم يشر قط إلى البيعة والاتفاق وإليك قوله[نقلت بضعة أسطر قبل النص المختلف عليه ليدرك القارئ المراد من كلام ابن تيميه]: (ولا يشد وسطه لا معلمه ولا لغير معلمه فإن شد الوسط لشخص معين وانتسابه إليه ـ كما ذكر في السؤال ـ من بدع الجاهلية ومن جنس التحالف الذي كان المشركون يفعلونه،ومن جنس تفرق قيس ويمن(فإن كان المقصود بهذا الشد والانتماء التعاون على البر والتقوى فهذا قد أمر الله به ورسوله له ولغيره بدون هذا الشد وإن كان المقصود به التعاون على الإثم والعدوان فهذا قد حرمه الله ورسوله فما قصد بهذا من خير ففي أمر الله ورسوله بكل معروف استغناء عن أمر المعلمين وما قُصد بهذا من شر فقد حرمه الله ورسوله ). فليس لمعلم أن يحالف تلاميذه على هذا ) [مجموع الفتاوى:28/ 17- 18] ا- هـ.
فتأمل الفارق بين نقل مؤلف( البيعة ) وبين حقيقة قول ابن تيميه .. وكيف أنه حرف كلامه عن الشد والانتماء .. إلى الاتفاق والانتماء والبيعة .. فلم يأت على ذكر كلمة الشد .. وأضاف من عنده كلمة البيعة .. انتصاراً لمذهبه الخاطئ في المسألة ؟!!
وقد أخطأ ثانية .. وقال على السلف الصالح مالا ينبغي .. وبغير علم .. عندما قال في كتابه المذكور:( أين كان سلف هذه الأمة عن مثل هذه البيعات الاستثنائية؟ وهل نستطيع أن نصل بعقولنا وأهوائنا إلى خير نظنه فات صالحي هذه البيعات الاستثنائية التي لم ترد في نص قرآني أو حديث نبوي أو فعل أحد من السلف الصالح تعد بدعة ومحدثة !!) [صفحة 33، وانظر صفحة 32 و 37 و 39] ا- هـ.
قلت: وهذا وهم خطأ ظاهر .. وهو مردود بالكتاب والسنة وعمل السلف الصالح وإليك بيان ذلك:
ـ معنى البيعة: قبل أن نثبت شرعية البيعة لغير الخليفة .. ونأتي على ذكر النصوص الواردة في الكتاب والسنة والآثار الثابتة عن السلف الصالح .. لا بد من أن نقف أولاً على معنى البيعة ليدرك القارئ مدى احتمال الأدلة ـ التي سنأتي على ذكرها ـ لمعنى البيعة .. والبيعة المختلف عليها.
البيعة : هي عهد وميثاق وعقد يربط بين طرفين على أمر يتم التعاقد والتواثق
عليه .
قال ابن الأثير في(النهاية) 1/174: في الحديث( أنه قال: ألا تبايعوني على الإسلام ) هو عبارة عن المعاقدة عليه والمعاهدة ا- هـ.
وقال ابن منظور في( لسان العرب) 8/26: وقد تبايعوا على الأمر كقولك اصفقوا عليه وبايعه عليه مبايعة: عاهده ا- هـ. ثم نقل كلام ابن الأثير المتقدم.
وفي (المعجم الوسيط) 1/82: بايعه مبايعة وبياعاً : عقد معه البيع وفلاناً على كذا: عاهده وعاقده عليه ا- هـ.
والعهد: يكون بمعنى اليمين والأمان والذمة والحفاظ ورعاية الحرمة والوصية ولا تخرج الأحاديث الواردة فيه عن أحد هذه المعاني [النهاية: 3/ 325].
والميثاق : العهد مفعال من الوثاق [النهاية: 5/ 151] .
وقال الراغب الأصفهاني: الميثاق عقد مؤكد بيمين وعهد[المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني].
هذا معنى البيعة والعهد والميثاق .. فهل يجوز التعاقد والتعاهد على فعل الطاعات .. ومن ذلك ما يُسمونه بالبيعات الاستثنائية التي تُعطى لغير الخليفة أو الإمام العام ..؟!
هذا ما سنجيب عليه في التفصيل التالي:
أولاً : الدليل من القرآن الكريم على شرعية أخذ العهود والمواثيق على فعل الطاعات .. ومن أعظم الطاعات الجهاد في سبيل الله .. والعمل من أجل استئناف حياة إسلامية وقيام خلافة راشدة . قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) النحل:92.
قال ابن كثير: هذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكد.
وروى ابن جرير بسنده عن بريدة في قوله:( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) لا يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام [تفسير ابن كثير:2/ 605]. فانظر كيف فسر العهد بالبيعة.
وقال ابن تيميه في التلميذ الذي يحالف أستاذه ثم ينتقل عنه إلى محالفة غيره: لا ريب أنهم إذا كانوا على عادتهم الجاهلية ـ أي من علمه استاذ كان محالفاً له ـ كان المنتقل عن الأول إلى الثاني ظالماً باغياً ناقضاً لعهده غير موثوق بعقده وهذا أيضاً حرام وإثم وهذا أعظم من إثم من لم يفعل مثل فعله بل مثل هذا إذا انتقل إلى غير أستاذه وحالفه كان قد فعل حراماً فيكون مثل لحم الخنزير الميت ! فإنه لا بعهد الله ورسوله أوفى ولا بعهد الأول بل كان بمنزلة المتلاعب الذي لا عهد له ولا دين له ولا وفاء. وقد كانوا في الجاهلية يحالف الرجل قبيلة فإذا وجد أقوى منها نقض عهد الأولى وحالف الثانية ـ وهو شبيه بحال هؤلاء ـ فأنزل الله تعالى:(وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ).
ومن حالف شخصاً على أن يوالي من والاه ويعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى ولا من جند المسلمين ولا يجوز أن يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين بل هؤلاء من عسكر الشيطان ولكن يحسن أن يقول لتلميذه: عليك عهد الله وميثاقه أن توالي من والى الله ورسوله وتعادي من عادى الله ورسوله وتعاون على البر والتقوى ولا تعاون على الإثم والعدوان وإذا كان الحق معي نصرت الحق وإن كنت على الباطل لم تنصر الباطل. فمن التزم هذا كان من المجاهدين في سبيل الله تعالى الذين يريدون أن يكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا [الفتاوى: 28/ 19 ـ 21] .
فتأمل كيف أن شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله ـ أقر شرعية العهود بين الأستاذ وتلميذه على فعل الطاعات وما أمر به أن يوصل واعتبر ذلك من الجهاد في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا أما الذي لا يجوز أن تنعقد عليه العهود والمواثيق هو كل أمر فيه معصية لله تعالى لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .. ولا نذر .. ولا وفاء في معصية.
فالعلة فيما يجوز من العهود وما لا يجوز هو ما يتم عليه التعاهد والتعاقد وليس ذات العهد أو العقد .. فإن كان المتعاقد عليه يتضمن معصية لله تعالى فهو باطل ولا يجوز إنفاذه ولا التعاقد عليه وإن كان حقاً وفيه طاعة لله ولرسوله فهو حق يجب إنفاذه والالتزام به وبخاصة إذا أخذت عليه العهود والمواثيق فإن أحقيته تصبح مضاعفة والوفاء به أوجب وأوكد من جهة أن الله تعالى قد أمر به ومن جهة أنه أعطى عهداً وميثاقاً على القيام به .. والوفاء بالعهد واجب يزيد الواجب وجوباً كما قال تعالى:( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ) الإسراء:34
وقال تعالى:( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) البقرة:177.
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ . المائدة:1
وجعل سبحانه وتعالى نقض العهد والميثاق من صفة المنافقين الفاسقين كما قال عنهم:( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) البقرة:27.
وقال تعالى:( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) الرعد:25.
وكذلك مما يستدل به على شرعية العهود على الطاعات ما حصل بين يعقوب وأبنائه عندما أخذ منهم عهداً وموثقاً .. على أن يأتوا بأخيهم كما قال تعالى :(قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) يوسف:66.
قال صاحب(العمدة): فلما طلب يوسف عليه السلام من إخوته أن يأتوه بأخ لهم من أبيهم لم يأمنهم أبوهم عليه ورفض أن يرسله معهم حتى يؤتوه ميثاقاً وهذا الميثاق في معاملات الناس قد سماه الله تعالى:( موثقاً من الله ) ولبيان غلظ هذه المواثيق قال كبيرهم ـ لما احتجز يوسف عليه السلام أخاه ـ: ) قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ( يوسف:80.
وكذلك قول الله تعالى في الشرط الذي أخذه الخضر على موسى عليهما السلام ليصحبه والشرط الذي اشترطه موسى على نفسه عليه السلام .
أما شرط الخضر ففي قوله تعالى:( قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) الكهف:70.
وأما ما اشترطه موسى على نفسه ففي قوله تعالى:( قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) الكهف:76.
وقد عقد البخاري رحمه الله لهذه المسألة باباً في كتاب الشروط من صحيحه وهو (باب الشروط مع الناس بالقول) وأورد فيه حديث ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام:( كانت الأولى نسياناً والوسطى شرطاً والثالثة عمداً ) حديث 2728.
قال ابن حجر: وأشار بالشرط إلى قوله:) إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي) والتزم موسى بذلك ولم يكتبا ذلك ولم يشهدا أحداً وفيه دلالة على العمل بمقتضى ما دل عليه الشرط فإن الخضر قال لموسى لما أخلف الشرط ( هذا فراق بيني وبينك) ولم ينكر موسى عليه السلام ذلك [فتح الباري:5/326] .
فهذه الأدلة السابقة تبين جواز العهود والمواثيق والشروط بين الناس على فعل الطاعات ا- هـ.
ـ كلام لابن تيمية في أن الأيمان والعهود تزيد الطاعات توكيداً ووجوباً:
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: وما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب على الإنسان وإن لم يعاهدهم عليه وإن لم يحلف لهم الأيمان المؤكدة كما يجب عليه الصلوات الخمس والزكاة والصيام وحج البيت وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله من الطاعة فإذا حلف على ذلك كان ذلك توكيداً وتثبيتاً لما أمر لا يحل له أن يفعل خلاف المحلوف عليه سواء حلف بالله أو غير ذلك من الأيمان التي يحلف بها المسلمون فإن ما أوجبه من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب وإن لم يحلف عليه .. فكيف إذا حلف عليه ؟!
وهذا كما أنه إذا حلف ليصلين الخمس وليصومن شهر رمضان، أو ليقضين الحق الذي عليه ويشهدن الحق فإن هذا واجب عليه وإن لم يحلف عليه فكيف إذا حلف عليه ؟!
وما نهى الله عنه ورسوله من الشرك والخروج عما أمر الله والكذب وشرب الخمر والظلم والفواحش وغش ولاة الأمور به من طاعتهم: هو محرم وإن لم يحلف عليه فكيف إذا حلف عليه ؟!
ولهذا من كان حالفاً على ما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم أو الصلاة أو الزكاة أو صوم رمضان أو أداء الأمانة والعدل ونحو ذلك: لا يجوز لأحد أن يفتيه بمخالفة ما حلف عليه والحنث في يمينه ولا يجوز له أن يستفتي في ذلك. ومن أفتى مثل هؤلاء بمخالفة ما حلفوا عليه والحنث في أيمانهم فهو مفتر على الله الكذب مفت بغير دين الإسلام بل لو أفتى آحاد العامة بأن يفعل خلاف ما حلف عليه من الوفاء في عقد بيع أو نكاح أو إجارة أو غير ذلك مما يجب عليه الوفاء به من العقود التي يجب الوفاء بها وإن لم يحلف عليها فإذا حلف كان أوكد فمن أفتى مثل هذا بجواز نقض هذه العقود والحنث في يمينه كان مفترياً على الله الكذب مفتياً بغير دين الإسلام فكيف إذا كان ذلك في معاقدة ولاة الأمور التي هي أعظم العقود التي أمر بالوفاء بها ؟![ مجموع الفتاوى: 35/ 9-11].
ثانياً: الدليل من السُّنة وفعل السلف الصالح.
جميع ما تقدم من أدلة تدل على شرعية الإمارة لغير الخليفة ـ في حال غيابه ـ تصلح أن تكون دليلاً على شرعية البيعة( الاستثنائية ) لغير الخليفة لأن من لوازم الإمارة .. واستتباب الأمن والنظام البيعة والطاعة .. وإضافة إلى ما تقدم نضيف هنا الأدلة التالية:
1- بيعة العقبة: الأولى والثانية حيث أعطيت للنبي صلى الله عليه وسلم ـ في مرحلة الاستضعاف والتخفي ـ قبل التمكين وقبل أن يكون رئيساً على دولة لها مقومات الخلاف العامة ـ التي تعتبر شرطاً عند المانعين لصحة البيعة ـ لهو دليل صريح وصحيح على جواز إعطاء البيعة لمن لم تكتمل فيه صفات الخليفة العام من حيث الظهور والتمكين.
والقول بأن هذه البيعة كانت من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره بحيث لا يجوز لأحد ـ غير الخليفة العام ـ أن يفعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم أو أن يطلب البيعة والنصرة على الجهاد والعمل من أجل إعلاء كلمة الله .. قول يحتاج إلى دليل مخصص .. وأنّى !
ولما عُدم الدليل المخصص وكذلك قول واحد من السلف الصالح يفيد التخصيص علم أن القول بالتخصيص ـ في هذه المسألة ـ قول باطل مردود لا تقوم به حجة .. ولا يُلتفت إليه.
واعتبار مؤلف كتاب (البيعة) أن القول بعدم التخصيص لا يقدم عليه إلا من(كان في الضلالة عريقاً [هي عبارة المؤلف، انظر صفحة 34] ) هو اعتبار فيه غلو وشدة وغلظة .. لا يقدم عليه إلا جاهل بالنص والمأثور .. بل هو شتم صريح يطال سلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم لأنه لم يثبت عن أحد منهم أنه قال بالتخصيص بل الثابت عنهم خلاف ذلك كما سيأتي بيانه في موضعه.
ثم أن المسألة ليست من الأصول .. ولا من الكليات العامة .. التي يترتب على المخالف فيها أن يكون عريقاً في الضلال ..!!
لذا كنا ـ ولا نزال ـ نرجو من صاحب كتاب البيعة أن يعتذر عن عبارته هذه ويتوب إلى الله منها .. ويمحها من كتابه إن ظهر له أنه لا يزال على الحق فيما ذهب إليه وأراد طباعة الكتاب ثانية.
2- قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق) متفق عليه.
فيه دليل على شرعية الاشتراط والعهود ما لم تكن مخالفة لكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لأنه من أصول الشريعة أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولا نذر في معصية .. ولا وفاء في معصية .. فإذا عُدمت المخالفة الشرعية تعين الوفاء بالشرط وبخاصة إن كان على أمر فيه طاعة لله ولرسوله فإن الوفاء به حينئذٍ يكون أوجب وألزم كما في الحديث الصحيح:( المسلمون عند شروطهم ) أي وفاء والتزاماً بها.
ولشدة حرص الإسلام على الوفاء بالعهد قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان بأن يفي بعهده لقريش وأن لا يقاتل معه في بدر[لأن القتال يوم بدر لم يكن واجباً على جميع من يتعين عليه القتال عندما يتعين الجهاد بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستنفر معه للقتال إلا المهاجرين أما عندما يتعين جهاد الكفار على الجميع فشرط ترك مقاتلتهم شرط باطل وشرط الله أوثق وأحق بالوفاء .. والله تعالى أعلم] كما في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان ( قال: ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل ـ والده ـ قال: فأخذنا كفار قريش قالوا إنكم تريدون محمداً فقلنا: ما نريده ما نريد إلا المدينة فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لننصرف إلى المدينة ولا نقاتل معه فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال:( انصرفا نفي لهم بعدهم ونستعين الله عليهم ) .
قلت: إذا كان على المسلم أن يفي بعهده الذي قطعه عليه الكفار وإن كان مؤداه إلى ترك مقاتلتهم مع أفضل خلق الله وفي أشرف وأقدس معركة وهي(بدر) أليس من باب أولى إن عاهد المسلم أخاه المسلم ـ عن رضى وطواعية ـ على الجهاد في سبيل الله وغيرها من الطاعات أن يفي بعهده وشرطه ؟!
فتأمل يا عبد الله واحذر أن يخونك فقهك وتعمى بصيرتك ..!
وكذلك فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم نقض العهد من خصال النفاق والمنافقين كما في صحيح مسلم وغيره:( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر ) .
3- ومما يدل كذلك على شرعية أخذ العهود والمواثيق على الطاعة في الخير ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه وكره أن يسأل عنه فرآه علي فعرف أنه غريب فقال له: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقا لترشدنني فعلت ففعل فأخبره قال : فإنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصبحت فاتبعني ..[ انظر تمام قصة إسلام أبي ذر في الصحيح حديث:(3861) وفيها شرعية الاستعانة بالكتمان والسرية عند الضرورة عندما تكون الدعوة والدعاة هدفاً للطغاة الظالمين].
فهذا أبو ذر رضى الله عنه يأخذ من علي رضى الله عنه عهداً وميثاقاً ليطيعنه فيما يطلب منه من إرشاد لما يبحث عنه إن عرفه عن سبب قدومه .. وعلي يُعطيه عهداً على ذلك.
والقارئ يعلم أن أبا ذر لم يكن وقتها خليفة ولا أميراً ولا حتى مسلماً ومع ذلك فإن علي بن طالب رضى الله عنه يستجيب لمطلبه ويعطيه العهد والميثاق على ذلك.
4- وكذلك ما رواه البخاري في قصة البيعة والاتفاق على عثمان رضى الله عنه وفيه أن عبد الرحمن بن عوف قال لعثمان وعلي: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه[أي يتنازل عن أن يكون خليفة وتوكل إليه مهمة تعيين الخليفة] والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه؟ فأُسكت الشيخان فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إليّ والله علي أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قدم علمت فالله عليك لئن أمّرتك لتعدلن ولئن أمّرت عثمان لتسمعن ولتطيعن ثم خلا بالآخر فقال مثل ذلك فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه فبايع له علي وولج أهل الدار فبايعوه .
وهذا أيضاً عبد الرحمن بن عوف لم يكن خليفة وقد أخذ على عثمان وعلي رضي الله عنهما موثقاً وعهداً ليطيعانه فيمن يختاره للخلافة .
5- وكذلك ما فعله عكرمة بن أبي جهل يوم اليرموك قال ابن كثير: قال سيف بن عمر عن أبي عثمان الغساني عن أبيه قال: قال عكرمة بن أبي جهل يوم اليرموك: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن وأفر منكم اليوم؟ ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعاً جراحاً وقتل منهم خلق منهم ضرار بن الأزور رضي الله عنهم. وقد ذكر الواقدي وغيره أنهم لما صُرعوا من الجراح استسقوا ماءً فجيء إليهم بشربة ماء فلما قربت إلى أحدهم نظر إليه فقال: ادفعها إليه فلما دفعت إليه نظر إليه آخر فقال: ادفعها إليه فتدافعوها كلهم من واحد إلى واحد حتى ماتوا جميعاً ولم يشربها أحد منهم رضي الله عنهم أجمعين[البداية والنهاية:7/ 11].
فعل ذلك عكرمة ـ ولم يكن خليفة ولا أميراً ـ على ملأ من الصحابة من دون أن ينكر عليه أحد منهم .. وهذا إقرار وتصويب منهم لما قد فعله عكرمة رضى الله عنه .
قال ابن كثير: قال سيف بن عمر إسناده إلى شيوخه: إنهم قالوا كان في ذلك الجمع ـ يوم اليرموك ـ ألف رجل من الصحابة منهم مائة من أهل بدر[البداية والنهاية: 7/ 9]. وهذا يعني أنه إجماع من الصحابة رضي الله عنهم على تصويب وشرعية ما فعله الصحابي رضى الله عنه .
6- ونحوه ما حصل في صفين عندما جعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه قيس بن سعيد بن عبادة رضي الله عنهما على مقدمة أهل العراق وكانوا أربعين ألفاً بايعوه على الموت[قال ابن حجر: أخرجه الطبري بسند صحيح، فتح الباري: 14/ 67] وقيس حينئذ لم يكن خليفة ولا أميراً عاماً للجند .. ومع ذلك تمت له مثل هذه البيعة الاستثنائية.
7- كذلك مبايعة أهل الكوفة للحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما للخروج على يزيد بن معاوية فبايعه منهم ثمانية عشر ألفاً [انظر البداية والنهاية:8/154]. والحسين لم يكن خليفة ولا أميراً عاماً ..!
8- وكذلك فإن السنة دلت أن المهدي الذي بشر النبي صلى الله عليه وسلم بظهوره يُعطى البيعة من المسلمين وهو لها كاره قبل أن يكون خليفة أو يمكّن له في الأرض .. وهذا دليل قوي في المسألة.
9- وكذلك مبايعة الناس عبد الرحمن بن الأشعث للخروج على الحجاج وخليفة الوقت عبد الملك بن مروان ووافقه على خلعهما جميع من في البصرة من الفقهاء والقراء والشيوخ والشباب وكان من جملة من بايع ابن الأشعث جبلة بن زحر وسعيد بن جبير والشعبي وغيرهم من العلماء ..!
وكذلك مبايعة أهل البصرة عبد الرحمن بن عياش بن ربيعه بن الحارث بن عبد المطلب على قتال الحجاج سنة اثنتين وثمانين[انظر البداية والنهاية:9/ 38 -42] .
10- كذلك مبايعة الناس لـ ( محمد النفس الزكية ) وقد بايعه أهل المدينة للخروج على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور سنة145. وممن أفتى ببيعته الإمام مالك ..[ انظر البداية والنهاية:10/ 85 -86] .
11- كذلك بيعة أحمد بن نصر الخزاعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخروج على الخليفة الواثق لفسقه وبدعته .
قال ابن كثير: ثم دخلت سنة 231، وفيها كان مقتل أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله وأكرم مثواه وقد بايعه العامة في سنة إحدى ومائتين على القيام بالأمر والنهي حين كثرت الشطار[هم الماكرون المفسدون] والدعار في غيبة المأمون عن بغداد وكان أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر إلى أن قال: فلما كان شهر شعبان من هذه السنة انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخروج على السلطان لبدعته ودعوته إلى القول بخلق القرآن ولما هو عليه وأمراؤه وحاشيته من المعاصي والفواحش وغيرها [البداية والنهاية:10/ 316- 317] .
والحوادث التي تثبت اشتغال سلفنا الصالح بمثل هذا النوع من البيعات والعهود هي أكثر من أن تحصى في هذا المبحث وهي من حيث الظهور والتواتر أجلى من أن يقول قائل:( أين كان سلف هذه الأمة مثل هذه البيعات الاستثنائية ؟) كما ورد في كتاب البيعة .. لصاحبه المذكور!!
ـ تنبيه: قولنا بشرعية الجهاد في سبيل الله في حال غياب الخليفة العام للمسلمين لا يستلزم منه أن يقوم كل فرد من الأمة بواجب الجهاد بطريقته الفردية وبالأسلوب الذي يهواه .. ومن دون مراعاة للمصالح والمفاسد التي يمكن أن تترتب على تصرفاته .. فهذا تصرف لا يُسلم به وهو محظور من أوجه:
1- منها أنه يؤدي إلى الفرقة والتنازع والفشل والضعف والفوضى والله تعالى قد أمر بالجماعة والوحدة والتنظيم وبجميع أسباب القوة ونهى عن كل مظاهر التفرق والتنازع والضعف والضياع كما قال تعالى:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) آل عمران: 103. وقال تعالى:( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال:46. وقال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) الصف:4.
وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ) .
وأكثر الأخطار تهديداً لأمن وسلامة الجماعات الجهادية .. والذي يُعيق من مسيرتها نحو أهدافها .. هو عدم وجود هذا التنسيق الكافي فيما بينها الذي يرقى إلى مستوى المعركة الضخمة التي تُحاك ضد الإسلام والمسلمين!
2- ومنها أنه قد يؤدي إلى فتنة أشد وأعظم من الفتنة أو المنكر المراد إزالته لأن التصرف الفردي ـ في الغالب ـ يتصف باللامسؤولية والضعف وعدم الدراية الكافية لما يصلح وما لا يصلح وما يجب القيام به وما يجب الإمساك عنه بخلاف الجماعة ـ التي تضم كثير الطاقات والإمكانيات الخيرة ـ القائم عملها على التنظيم والتخطيط والتعاون والتشاور والدراسة الدقيقة لما يجب القيام به .. وما يترتب عليه من نتائج .
3- ومنها أن من لوازم الجهاد وشروطه إعداد القوة اللازمة للقيام بواجب الجهاد وهذه مهمة جماعية ـ تتضافر على تحقيقها جميع الطاقات والإمكانيات الخيرة وكل بحسب طاقته ـ يصعب على فرد مستقلاً بنفسه أو مجموعة أفراد .. القيام بها من دون أن يصب جهدهم وإمكانياتهم مع جهد غيرهم من المجاهدين العاملين لذا جاء الأمر بالإعداد بصيغة الجمع من دون أن يستثني أحداً من أفراد الأمة كما قال تعالى:( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة) الأنفال: 60. وقال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ) المائدة:2. وأفضل التقوى والبر الذي يُتعاون عليه هو التعاون على إعلاء كلمة الله في الأرض والجهاد في سبيل الله عز وجل .
والإعداد واجب على كل مسلم بحسب استطاعته وظروفه فأفضلهم الذي يعد للجهاد بنفسه وماله .. وأدناهم الذي يشارك بالنصيحة والدعاء للمجاهدين والذود عن أعراضهم وحرماتهم ـ وهو جهد مشكور عندما تتطاول ألسنة المثبطين المخذّلين على المجاهدين وحرماتهم ـ وليس وراء إخلاص الدعاء للمجاهدين إلا النفاق والعياذ بالله كما قال تعالى عن المنافقين:( وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) التوبة:46.
وقال تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ التوبة:91.
ليس على هؤلاء المعذورين من حرج بشرط أن يُخلصوا في النصح لله ورسوله والمؤمنين .. وتسلم سرائرهم من الضغينة أو الغش للمجاهدين!
منقول عن الشيخ عبد المنعم مصطفى حليمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق