وكون إتباع الكتاب والسنة ـ من دون تعصب لما يخالفهما من أقوال الرجال والمذاهب ـ هو من أبرز ما يميز الطائفة المنصورة فإن ذلك يظهر من وجهين :
الوجه الأول: يكمن في وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك فهم ( يقاتلون على أمر الله ) و( وظاهرين على الحق) والدين قائم بهم يقاتلون الناس عليه وهم ( يقاتلون على الحق ) و ( قائمة بأمر الله ) وغير ذلك من الصفات التي تجمع على أنهم على الدين الصحيح الذي يرضي الله ورسوله؛ وهو الدين الذي جاء في الكتاب والسنة .. قال الله .. قال الرسول مع مراعاة فهم السلف الصالح لنصوص الوحي كما تقدم .
أما الوجه الثاني: فإنه يكمن في أن مخالفة الكتاب والسنة يعتبر من أكبر الكبائر ولربما يؤدي بصاحبه إلى الكفر والخروج من دائرة الإسلام [مخالفة الكتاب والسنة: منه ما يكون عن اجتهاد وغير قصد وهذا صاحبه يؤجر إن كان من ذوي الاجتهاد كما قال صلى الله عليه وسلم في ( الصحيحين ) : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ).
ومنه ما يكون معصية دون الكفر: وذلك عندما يقع المرء في المخالفة ـ في غير مسائل الشرك الأكبر ـ عن ضعف ونزوة من غير استحلال ولا تحسين .. ومع اعترافه في الوقوع في الخطأ والتقصير.
ولا يُشترط الاستحلال أو التحسين أو الاعتراف بالخطأ عند وقوعه في الشرك الأكبر أو الكفر البواح إذ الكفر يكون كفراً لذاته سواء ضُمّ إليه الاستحلال القلبي أم لم يُضم.
ومنه ما يكون كفراً مخرجاً من الملة: وهو الذي يقع في المخالفة عن علم وقصد مستحلاً لمخالفته أو مزيناً لها راضياً بها وكذلك إذا كانت مخالفته ناتجة عن جحود للمشروع أو عن إعراض وكبر وعناد أو عن استهزاء واستخفاف بأمر الله وأمر رسوله أو عن كره وبغض لشرع الله عز وجل فكل هذه الأوجه إذا وقعت المخالفة بسببها أو بسبب واحد منها فإن صاحبها يكفر ويخرج من دائرة الإسلام إن كان قبلها من المسلمين] وهذا أمر أبعد ما تكون عنه الطائفة المنصورة فحاشاهم أن يقعوا في ذلك عن علم وقصد ولو وقعوا في شيء من المخالفة .. فهذه المخالفة لا تتحول إلى منهج يتبعونه ويدعون إليه .. فهم اكتسبوا صفة نصر الله لهم لقيامهم على أمر الله ونصرة دينه فإذا انتفى عنهم ذلك كان لزاماً أن ينتفي عنهم نصر الله وكذلك مسمى الطائفة الظاهرة المنصورة .
كما قال تعالى:( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) سورة محمد: 7. مفهوم الآية: أي إن لم تنصروا الله ـ بالتزام دينه وأوامره ـ لا ينصركم وهو كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لابن عباس:( احفظ الله يحفظك ( أي إذا لم تحفظ الله تعالى في حدوده بحيث تأتمر بما أمر وتنتهي عما نهى وزجر لا يحفظك الله مما لا ترغب أن ينزل بساحتك من خطوب ومصائب وفتن.
وقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) النساء:59 .
قال ابن القيم: قوله ( فإن تنازعتم في شيء) نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دقِّه وجله جليَّهُ وخفيه ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله[لعل الصواب: وسنة رسوله] بيان حكم ما تنازعوا فيه ولم يكن كافياً لم يأمر بالرد إليه إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع.
ومنها:أن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه والرد
إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته .
ومنها: أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر[أعلام الموقعين: 1/ 49- 50]
وكذلك قوله تعالى:( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما ) النساء:65.
قال ابن كثير في التفسير 1/553: يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ا- هـ.
وقال ابن القيم: أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع وأحكام الشرع وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح وتنفسح له كل الإنفساح وتقبله كل القبول ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى يضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض[التبيان في أقسام القرآن:270 ].
وفي قوله تعالى:( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)
آل عمران:31 قال ابن كثير: هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله[التفسير: 1/ 366].
وقال تعالى:( ً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَة أو يصيبهم عذاب أليمٌ) النور:63.
قال الإمام أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو:( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) النور:63.
وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه وجعل يتلو هذه الآية:( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) النساء:65. وقيل له: إن قوماً يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان فقال: أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره! قال الله: ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وتدري ما الفتنة؟ الكفر قال الله تعالى : ( والفتنة أكبر من القتل) .فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي!![الصارم المسلول لابن تيمية:56]
وكذلك قوله تعالى:( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الحشر:7
قال ابن تيميه رحمه الله تعالى: فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه فليس لأحد من المشايخ والملوك والعلماء والأمراء والمعلمين وسائر الخلق خروج عن ذلك وكل من أمر بأمر كائناً من كان عرض على الكتاب والسنة فإن وافق ذلك وإلا رد كما جاء في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) [الفتاوى: 28/ 24] أي فهو مردود.
وفي قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) الحجرات:2.
قال ابن القيم: فإذا كان رفع صوتهم سبباً لحبوط أعمالكم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه أليس هذا أولى أن يكون محبطاً لأعمالهم؟![ أعلام الموقعين : 1/ 51].
وفي السنة فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( تركت فيكم أمرين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي ).
وقال صلى الله عليه وسلم:( أبشروا فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبداً ) [رواه الطبراني، صحيح الجامع الصغير:34].
وقال صلى الله عليه وسلم :( القرآن شافعٌ مُشفَّع وماحِلٌ مُصدَّقٌ من جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار) [السلسلة الصحيحة: 2019] .
وقال صلى الله عليه وسلم:( كتاب الله، هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ) [السلسلة الصحيحة: 2024] .
وقال صلى الله عليه وسلم:( يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل. فما وجدنا فيه حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمنا ألا ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله) [صحيح سنن ابن ماجه: 12. قلت: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فها نحن في هذا الزمان نُبتلى بطائفة تُسمي نفسها بالقرآنيين .. يردون السنة ولا يقبلون إلا القرآن الكريم .. ويقولون الحجة بيننا وبينكم القرآن فقط .. فما حلله القرآن حللناه وما حرمه القرآن حرمناه .. وما أثبته القرآن أثبتناه وما نفاه نفيناه .. منكرين بذلك السنة !!
وفريق آخر من الفساق والعصاة ألفت نفوسهم التفلت من قيود الشرع .. تنادوا فيما بينهم أننا لا نحرم إلا ما حرمه القرآن .. رغبة منهم في الفسوق والعصيان !] .
وقال صلى الله عليه وسلم:( من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله) متفق عليه.
وغيرها كثير من النصوص التي تدل على وجوب إتباع الكتاب والسنة والتحاكم إليهما من غير تعقيب أو استدراك أو اعتراض أو تقديم بين يدي الله ورسوله بقول أو فهم وهذا من لوازم الإيمان وشروط صحته.
وشاهدنا من جميع ما تقدم أن صفة إتباع الكتاب والسنة وفهمهما على النهج الذي كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم هي من أبرز وأهم صفات الطائفة الظاهرة المنصورة التي تميزها بها عمن سواها كما أن جميع صفات الطائفة المنصورة الأخرى هي مستمدة من هذه الصفة، وتابعة لها، وتعتمد عليها اعتماداً رئيسياً.
منقول عن الشيخ عبد المنعم مصطفى حليمة
منقول عن الشيخ عبد المنعم مصطفى حليمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق